لغة مُقَدَّسَة.. ولكنها مُهانة!
إذا تجاوزنا ما جاء عن قِدم اللغة العربية، وتأثيرها في الكثير من اللغات، وأن آدم نطقَ بها، وأنها لغة أهل الجنة، وغير ذلك.. سنجد، حقيقة، أنه يكفينا للدفاع عنها أنها لغة مقدسة، كونها لغة القرآن الكريم، ولغة التشريع، ولا تُقام الصلاة إلا بها.. وهي لغة الشعائر لعدد من الكنائس المسيحية، لا بل، كل من سبر أغوارها، سمت روحه وتلذذت نفسه.. لاحتوائها على كل ما يلزم الإنسان، من شعر ونثر وقصة وتصوير ومعنى ومنطق وقصد وجمال.. إنها، كما يقول ابن كثير: "أفصح اللغات، وأَبْيَنها وأوسعها، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس، فلهذا أُنزلَ أشرف الكتب بأشرف اللغات". كما حافظت على توهجها وعالميتها، إذ ساهمت، لا بل أسّست، للكثير من العلوم والاكتشافات التي عرفتها البشرية.
ولكنها، وبعد تخلّف أهلها، ودخول اللغة الإنجليزية للعالم العربي مع الاستعمار، وقيام أمريكا، فيما بعد، بتعزيز انتشارها، بقوتها الاقتصادية والعسكرية، وجامعاتها، ومكانتها الرائدة في التقنية.. ومن ثم تسارع العولمة الثقافية والاقتصادية التي فرضت نفسها، استعلت الإنجليزية، وحُقَّ لها أن تستعلي كونها لغة الأقوى! وترسخت كلغة للمال والأعمال، ومفتاحاً لاحتلال المراكز القيادية، إذ إن الاعتقاد الرأسمالي أوحى بأن من يرطن بالإنجليزية إنما يقول الحق ويفسر العلم دون شك؟! في المقابل، تشرئب الأعناق للمتحدث بالعربية، ناظرة إلى حجمه، ولون عينيه، بتلمظ وتململ، سائلة عن شهاداته، محصية لخبراته، مأخوذة منه بالعزة! لم تعد الشهادات والخبرات هي المحك ما دامت عربية الشكل والمضمون؟!
كذلك، أُهملت العربية، لساناً وتعاملاً، خاصة في بعض الدول الإسلامية، جراء كثافة أعداد العمالة غير العربية، لتصبح حروفاً مجزّأة تُخالطها حروف أخرى من لغات أخرى، بلهجات ولكنات مختلفة.. فاستشرت لغة هجينة مُستحْدَثة، أصبح العربي معها في مواجهة لج ثقافي – لغوي، فسيفسائي تثاقفي بغيض!
لا بل، وصل الإهمال إلى حد الإهانة! إذ أصبحت هذه اللغة المقدسة، بما هي مادة للمطبوعات الورقية، تُداس بالأقدام، وتُستعمل للف الخضراوات، ولتنظيف الزجاج، وربما المراحيض، ليس من قِبل الخدم فحسب، بل من قبل العربي نفسه! ثم، لم يعد غريباً أن تسير في الشوارع فترى المطبوعات العربية وقد رُميت هنا وهناك، وإن شعرت بالغيرة على قدسيتها، عليك حينئذٍ أن تقوم بجمعها ووضعها في مكان ما بعيداً عن الإهانة، ولكن، لكثرتها، تعود وتستسلم وتغض الطرف وتسير في طريقك! فالأمر لا يكفيه تدخل فردي، لا بل حتى الأفراد سلبيين، إذ يندر أن تجد من يشاركك هذه الغيرة، ففي الغالب تُداس ولا يُبَالى بها! تصوّر أنك تسير في الشارع فتدوس على عبارة: "لا إله إلا الله" أو "محمد رسول الله".. حتى كتيبات الأذكار مرمية في الطرقات.. لغة مقدسة، ولكنها مُهانة!
كذلك مهانة لساناً، إذ الكثير من البيوت لا يتكلم أهلها سوى الإنجليزية! تسأل لماذا؟ فتأتيك الإجابة: هي لغة العصر، لغة المال، لغة المستقبل! وأي مستقبل؟ وها هي لغات كالصينية واليابانية، إلى جانب العربية، تنتظر اكتمال الدائرة لتعود وتأخذ مكانتها في عالم المال والأعمال..
ويبقى السؤال الحاضر على الدوام: إذا كانت ثقافة المجتمع تعتمد على الفكر، فتدخل اللغة كوسيلة لهذا الفكر، للتواصل المادي والمعنوي لتشكل ثقافة المجتمع، بالتالي، عدم وجود لغة واحدة مسيطرة في المجتمع، يندمج من خلالها أفراده، يعني عدم وجود ثقافة مجتمعية متناغمة وبناءة.. فاللغة تعني أحد مرتكزات السلوك وأحد أنماط التفكير المكتسبين، ضمن نسيج متجانس، وضياع هذين المرتكزين يؤدي إلى ضياع اللغة، وضياع التجانس المجتمعي، بفعل سيطرت التثاقف على الثقافة.. بمعنى: تفوق ثقافة أو ثقافات، بما فيها من لغة أو لغات، بواسطة الاحتكاك (غير العرب) على ثقافة أخرى (ونقصد هنا العربية) بسبب ضرورات الحياة، أو الغلبة العددية، أو غير ذلك.. والأمر هنا شائك، لما يتضمنه من سلبيات، وآثار آنية ومستقبلية، غير حميدة على سائر المستويات.
فمن الواجب أن نغار على لغتنا، ونصونها من الإهانة.. وليكن ذلك من خلال حملة "احترام اللغة العربية"، تُطرح من خلالها ثقافة المحافظة على هذه اللغة، عبر مؤسسات المجتمع المدني، ومؤسسات الدولة، خاصة، هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووسائل الإعلام، وخُطباء الجمعة.. لإظهار قدسية هذه اللغة، وحُرمة أهانتها، فهي هويتنا، بها البركة والعزَّة، والملاذ إلى مرضاة الله .. وإن كانت، بنا أو بدوننا، لغة لن تندثر باندثارنا وستزدهر بغيرنا.