عندما تقود ريادة الأعمال المؤسسية التغيير
آن الأوان أن تقود ريادة الأعمال المؤسسية منظمات الوطن من وزارات ومؤسسات وهيئات, فالتغيير الموجه لريادة الأعمال أصبح اليوم القوة الموجهة للاقتصادات العالمية، وأن العصر الجديد للتغير هو عصر رواد الأعمال. وتعرف ريادة الأعمال المؤسسية بأنها إعادة ميلاد المنظمات القائمة من خلال تجديد أفكارها الرئيسة.
إن الثقافة التنظيمية التقليدية المسيطرة على السلوك التنظيمي الحكومي تعتمد على الالتزام بالتعليمات وعدم الوقوع في الخطأ، وعدم السماح بالفشل، وعدم القيام بالمبادرة، وانتظار صدور التعليمات، والالتزام بالحدود، والمستوى الوظيفي للفرد، وحرص المديرين والوزراء على حماية ظهورهم بصفة مستمرة. هذه البيئة المقيدة لا يمكن أن تقترب من مبادئ التغيير، ولا يمكن أن تتناسق مع المناداة بالإبداع والمرونة والاستقلالية وكفاءة الإنتاج والعدالة في المحفزات.
إن السلوك التنظيمي الحكومي القائم على تقديس الهرمية بما تتطلبه من إجراءات رسمية وخطوط السلطة والمسؤولية، والأساليب الرقابية، ونظم التقارير وشخصنة الاختيار، هي أيضاً ممارسات لا يمكن أن تتوافق مع التطوير والتقدم والتنافسية والنمو المستدام والاستجابة للمتغيرات الحديثة في البيئة الدولية المحيطة، وانفتاح الأسواق، وتساقط الحدود الاتصالية العالمية.
وفي تاريخ قيادات المنظمات الوطنية، قلة أولئك الذين يمكن أن يُطلق عليهم رواد الأعمال المؤسسيون. ولا يبرز أمامي اليوم أكثر وضوحاً من الوزير الراحل رائد الأعمال المؤسسي غازي القصيبي ـــ رحمه الله.
ريادة الأعمال ليست منصباً يمنح للأفراد العاملين داخل النظام، بل هو اختيار ذاتي يجعلهم يبرزون من خلال الأفكار التي يحملونها والأحلام التي يأملون تحقيقها وتطبيقها وبلورتها بمعرفتهم وقدراتهم الخاصة. رواد الأعمال المؤسسيون ليسوا مخترعين ولا مكتشفين، لكنهم أفراد يستطيعون تحويل أفكارهم إلى مشروعات حقيقية. يبنون فرق العمل، ويتمتعون بالالتزام وبالدوافع القوية كي يروا أفكارهم قد تحولت إلى دافع ملموس. وهم بعد ذلك كله ليسوا عباقرة, بل لا تتجاوز حدود الذكاء لديهم ذكاء متوسط الناس. وهم يبدأون مغامراتهم المؤسسية الداخلية بفكرة ثم سرعان ما تتحول إلى رؤية هي أشبه بأحلام اليقظة. فهم الحالمون المنجزون كما وصفهم بنشوت Pinchot أول من نادى بريادة الأعمال المؤسسية في عام 1985، وذلك لإعادة إحياء المؤسسات الكبرى المترهلة.
رواد الأعمال المؤسسيون الذين نتطلع إلى قيادتهم مؤسسات الوطن هم رجال يتوجهون بالإنجازات ويتمتعون بسرعة الحركة من أجل إنجاز الأعمال. وهم يتوجهون بالأهداف لا بالاختصاصات، والتزامهم بالأفكار الجديدة غير محدود، يتوقعون من أنفسهم المستحيل ولا يعوقون بالعقبات مهما عظمت ولا بالمحددات مهما تحجرت.
وفي حين يهرع المسؤولون التقليديون نحو الحوافز المتمثلة في الترقيات والمكافآت التنظيمية ورضا المرجعيات، فإن رواد الأعمال المؤسسيين يحفزون بما يتمتعون به من استقلالية وقدرة على الإبداع والابتكار، ويستمتعون بعامل النجاح وتحقيق الأحلام وكتابة التاريخ. وبينما يميل المسؤولون التقليديون إلى حماية أنفسهم من الأخطاء ويتحوطون كثيراً أمام المخاطرة، يتعرض رواد الأعمال المؤسسيون للفشل والأخطاء، ويتعلمون منها، فهم ليسوا ممن يبحثون عن رضا الرؤساء في العمل كهدف أساسي، لكنهم يعتمدون على شبكة الحلفاء والمؤيدين التي يتجاوز تأثيرها تأثير الأفراد. كما أنهم لا يلقون بالملامة على الآخرين، ولا الفشل على المحيطين، بل ينصب تركيزهم على كيفية تحسين الأداء والاستفادة من الأخطاء والعثرات.
إن المطلوب من المؤسسات الريادية في هذه المرحلة التطويرية المتفائلة أن تتصف بصفات، منها: أولاً: استيعاب البيئة المحيطة، فالتغيير أصبح الآن سمة العصر والمنافسة أداة التقدم والازدهار. ثانياً: الاستجابة لاحتياجات المواطنين والإيمان العميق بأن الخدمة العامة ليست منّة وتفضلا من القائمين عليها، بل هي حق مدني يكفله العيش في كنف الوطن. ثالثاً: إن الريادية المؤسسية تستدعي ابتكار البدائل الإدارية الجديدة، تلك البدائل الجريئة التي تتحدى الافتراضات التي تعتنقها المؤسسات الحكومية التقليدية، وتتجاوز المحددات البيروقراطية، والالتزام بحرفية اللوائح إلى روح النظام ومنطلقاته. رابعاً: أن تُقدم على الانفتاح والحرية التي تدعم تكوين التحالفات القوية مع الرعاة وأصحاب المصالح من القطاعات الخاصة والمواطنين. هذه التحالفات تتجسد بالمشاركة الحقيقية في القرارات، واللجان، والمجالس، والاجتماعات والتفكير بلبس القبعات المختلفة في المواقف والحالات المتنوعة. وخامساً: رواد الأعمال المؤسسيون يتوجهون بالأفعال والتصرفات، لا بالأقوال والتصريحات, فهم عمليون يتحركون فوراً ولا يميلون إلى تبديد الوقت بالتخطيط لأفكارهم وبلورتها ثم صياغتها ثم تشكيلها ثم تفصيلها في قوالب شكلية مسهبة. ويندر أن ينتظروا من يقر خططهم أو يبلور أفكارهم، ويكاد شغفهم وحبهم لتحويل الأفكار يجعلهم يتلبسون بها حتى لا يكاد أحدهم يلجأ إلى التفويض إلا في أضيق الحدود. سادساً: رائد الأعمال المؤسسي المرغوب هو القادر على تجاوز الفشل ومقاومة الإحباط العام للمنظمة، ورفع الروح المعنوية لفريق العمل والموظفين. وهو يرى أن الفشل والإخفاق سبيل التحفيز والتعلم وتطوير المنظمة وبلورة الأفكار أو تغيير الطريق. وأخيراً فإن رائد الأعمال المؤسسي مسؤول متفان ومخلص إلى حد الوصول إلى التضحيات الشخصية والصحية وربما الاجتماعية والاقتصادية. فالمشروعات التي يتبناها يقدم لها كل شيء في سبيل نجاحها، وتكون في مقدمة أولوياته وفي قمة اهتماماته، حتى يتمكن من إنجازها في أوقاتها إن لم تكن قبل ذلك.
وإجمالاً، فإن الوطن اليوم في حاجة إلى نماذج قيادية ريادية جديدة تحيي الأمل بمستقبل وزاري واعد يتواكب مع تطلعات ولاة الأمر في بناء تنمية وطنية مستدامة وازدهار معيشي دائم، يكفل للأجيال القادمة معيشة رغيدة آمنة. والظروف الوطنية في هذه الفترة الزمنية الذهبية مواتية والفرصة سانحة لولادة أكثر من (قصيبي) في مؤسساتنا، كما أن النماذج الريادية الناجحة في الصحة والتعليم العالي على وجه الخصوص باعثة على التفاؤل وجديرة بالتمكين والتكرار.