هوامش على كارثة سيول جدة

في اليوم التالي لحدوث كارثة أمطار جدة, وبعد أن تكشفت أبعادها وحجمها, تلقيت عديدا من الاتصالات الهاتفية من أقرباء وأصدقاء من حائل والرياض والقصيم والمنطقة الشرقية, يسألون فيها عن سلامتنا مما تعرضت له مدينة جدة من أمطار أدت إلى كوارث حقيقية. وهذه مشاعر إنسانية طبيعية بين الناس, إلا أن الأكثر أهمية من كون مثل هذه المشاعر شخصية, هو أنها عبرت عن شعور وطني أوسع وأكبر، من خلال ما أبدوه جميعا من استياء كبير مما تعرضت له واحدة من مدننا السعودية من كارثة, وكم كان ألمهم واضحا لحال من تضرر من الأمطار وما تسببت فيه من معاناة لكثير منهم, وما ظهر في ردود أفعالهم التي عبروا عنها بأحاسيسهم الجياشة المتضامنة مع جدة وسكانها وكأنهم يعانون مثل معاناتهم, واستغرابهم بل استنكارهم ألا تستطيع مدينة بقيمة جدة وحجمها الصمود أمام أمطار، كان يمكن تلافي كثير من أضرارها وضررها لو كانت هناك بنية تحتية، كان من الطبيعي أن تكون متوافرة وموجودة منذ سنوات طويلة, ومسؤولون أمناء على أمانتهم ومؤهلون للقيام بمهامهم.
هذه المشاعر التي عبر عنها كل من اتصل حيال ما تعرضت له مدينة جدة, عكس وجود حس وطني جمعي تجاوز وألغى ما نتهم به من مناطقية, فالجميع الذين تحدثوا من مناطق مختلفة, تحدثوا بشعور واحد وكأن ما تعرضت له مدينة جدة تعرضوا هم له, وهذا يؤكد وجود لحمة وطنية حقيقية تقول إننا فعلا أبناء وطن واحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعت له بقية الأعضاء, وهذا مؤشر مهم لا بد من أخذه في الاعتبار.
جانب آخر كشفته كارثة جدة, وهو روح الشباب وإحساسهم بالمسؤولية التي عبروا عنها بهبتهم التطوعية الذاتية، وتشكيل فرق بشكل عفوي أسهموا من خلالها بمجهود مدني رائع ولافت للنظر, ونزول العشرات منهم لحظة هطول الأمطار للمواقع المتوقع تأثرها، بناء على ما حدث قبل عام, وكيف خاطروا بحيواتهم لإنقاذ كثيرين ممن حاصرتهم المياه في منازلهم وسياراتهم ومدارسهم وكلياتهم, وهو ما أعطى صورة رائعة عن هؤلاء الشباب وكيف أنهم طاقات وعنفوان برزت وتجلت في هذه المحنة التي تعرضت لها مدينتهم, لم يجلسوا في بيوتهم يتسلون بالإنترنت والفيسبوك ويستمعون إلى الأغاني, بل شمروا عن سواعدهم وتقدموا الصفوف دون انتظار دعوة أو طلب، وأسهموا في عمليات الإنقاذ وجمع وتوزيع المعونات والتموين للمتضررين.
هؤلاء الشباب, الذين يمثلون شريحة كبيرة, هم طاقات كامنة وقادرة على خدمة وطنها ومجتمعها, وهذه الطاقات علينا أن نفتح عيوننا عليها وعقولنا لها لاستيعابها كقوة إضافية لمجتمعنا وبلدنا, وبات توظيفها ودمجها في حركة المجتمع كجزء أصيل وفاعل فيه ضرورة ملحة, وليس إهمالها وتهميشها وسد أبواب المستقبل أمامها. علينا أن نعمل بكل السبل لتوفير كل المساحات للاستفادة من طاقاتهم، وأن توفر لهم كل مجالات العمل حتى يصبح لديهم أمل.
المسألة الثالثة هي مطلب ضرورة إعادة النظر في منظومة المسؤولية, بحيث لا يتولاها إلا من هو مؤهل بكفاءته ونزاهته وأمانته, فاختيار من يكلف بعمل ومسؤولية يجب أن يكون وفق معايير الصلاحية والكفاءة وليس الثقة وحدها أو المحسوبية, وهذا ما كشفته كارثة السيول في جدة السابقة قبل عام واللاحقة قبل أسبوعين, التي جاءت نتائجها المفجعة لتكشف وتؤكد ضعفا في الأداء وفقدا للأمانة والأهلية والكفاءة في المواقع المسؤولة عن مدينة جدة الممتد منذ عقود, حيث فشل من أسهم بداية في التخطيط الذي ثبت اليوم أنه عشوائي وبدائي, وكل من جاء بعد ذلك ممن حول معاناة جدة لفرص إثراء غير مشروع دون أن يقدم عملا يصحح فيه الوضع, وهذا ليس مقصورا على مدينة واحدة, لكن نرجوه ـــ تعالى ـــ أن يتدارك ولاة الأمر, وهم صالحون ـــ إن شاء الله, الأمور قبل أن تكشف السلبيات والعيوب الناتجة عن تولية من هو ليس أهلا للمسؤولية, كوارث مماثلة لما تعرضت لها جدة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي