تناقض الاستراتيجيات
لا شك أن الاقتصاد السعودي قد نما في بنيته الأساسية بشكل جيد، خصوصا في إعطاء القطاع الخاص دورا أكبر نحو زيادة مشاركته في صياغة الناتج الإجمالي مما أفرز بالتالي نسيجا من المؤسسات والشركات الخاصة والعامة المساهمة، سواء المتداولة أو غير المتداولة. وكل ذلك إيمانا بدور القطاع الخاص في رفع مستوى الإنتاجية وإدراكا بأن القطاع الحكومي عادة أقل كفاءة من القطاع الخاص لتحكيم الأخير مؤشرات الربحية والخسارة. علاوة على كون المنشآت المتوسطة بالذات هي الشرايين الحقيقية التي تغذي نمو أي اقتصاد، وتأخذ به إلى مصاف التنافسية، وحل كثير من مشاكله المعروفة كالبطالة وغيرها. ولذا فقد تواترت الخطط الخمسية منذ البدء بها وغيرها من الخطط والقرارات الاستراتيجية نحو تمكين القطاع الخاص وتشجيعه، سواء في الاستثمار الداخلي أو الخارجي، ما أدى إلى خلق أكثر من 190 ألف منشأة ما بين مؤسسة فردية أو شركة بحسب تصنيفاتها وفئاتها المختلفة، وذلك طبقا لما ورد في الكتاب السنوي لمصلحة الإحصاءات العامة 2009.
إنك حين تتمعن في الإحصاءات لهذه المنشآت في الاقتصاد السعودي تدرك أن هناك تباينا بين الواقع والمأمول، خصوصا في قراءة الانعكاسات الاقتصادية لكثير من الخطط والاستراتيجيات وبالذات الاستثمارية وتشجيعها. فمن بين تلك المفارقات أن المنشآت الفردية تمثل السواد الأعظم في خريطة هذه المنشآت الخاصة، حيث يوجد نحو 180 ألفا من بين الإجمالي كمنشآت فردية، وهذا يعني نحو 95 في المائة من هذا النوع من الكيانات الاقتصادية في القطاع الخاص، بينما أقل من نصف في المائة من إجمالي العدد كمنشآت مساهمة. ولا غرو في ذلك ربما لكون شركاتنا المساهمة كبيرة في الحجم محدودة في العدد، إلا أن ما استوقفني هو أمران، أولهما أن هذا الكم الكبير من المنشآت الفردية لا يوجد لها مرجعية اقتصادية واحدة تأخذ بها، وتقودها نحو الانفتاح والتوسع، وتساعدها على نفسها، وتحسن من أدائها، وتعضد سبل تمويلها، وتسويق منتجاتها، وما إلى ذلك من أساليب الإدارة الحديثة، بل إن كثيرا من الخطط التحفيزية والتشجيعية أيا كان مصدرها من الدوائر الحكومية في غالبها هي لصالح المنشآت الكبيرة حتى الغرف التجارية، التي تعتبر شبه حكومية هي في جملة أعمالها لصالح التجار، لذلك تترنم بعض هذه الغرف في تسمية نفسها ببيت التجار! نعم التجارة لا تعني الغنى لكنها مجاز في أوساط المجتمع تفهم كذلك، أما الأمر الثاني فمن بين المفارقات التي تنطق بها الأرقام في هذه الإحصاءات أن أكثر من 50 في المائة من المنشآت الفردية هناك أقل من أربعة أشخاص مشمولين بالتأمينات الاجتماعية مما يعني أنها توظف أربعة فأقل مجازا إذا أخذنا أن جميع العاملين في هذه المنشآت ملحقون بنظام التأمينات، علاوة على أنه من المرجح أن غالبيتهم غير سعوديين. أما في الشركات المساهمة فهناك 53 في المائة من هذه الشركات لديها 20 في المائة فأقل مشمولون بنظام التأمينات مما يعني أيضا محدودية حجم التوظيف في هذه الفئة، وبالتالي تقريبا تعتبر منشآت صغيرة أو ربما متوسطة. ومع كل هذه المؤشرات الداعمة إلى أهميتها هناك عدد على الأقل لا ينصب الدعم إليه، بل إنه يلاقي التعقيد والإقصاء في دوائر الأعمال والاصطدام بالبيروقراطية. ليس هذا فحسب، بل إن الجهود وتركز الخطط والاستراتيجيات الاستثمارية والاقتصادية في غير صالحها، وذلك في ظني تسطيح لدورها الاقتصادي وعدم الإيمان بأهميتها في حين أنها في جميع دول العالم المتقدم خالقة الفرص الوظيفية ورابطة لشرايين حياتها التنموية.