مرحلة جديدة

لم يسبق أن كان تأجيل النظر في المشكلات طريقا سليما لحلها، إن لم يكن سببا لتفاقمها وزيادة تعقيداتها. وليس من الحكمة مطلقا التقليل من جدية التحديات التي تواجه اقتصادنا أو تأجيل التصدي لها تحت أية ذريعة. فبعضها تعاظم حتى كاد يصبح قابلا للانفجار في أي لحظة. والانفجار يحجب وضوح الرؤية، ويجعل بيئة العمل مضطربة، ويعطل حسن التصرف، وقد يفضي إلى قرارات غير مناسبة تزيد من تعقيد الأزمات. وليس فينا ومنا من يريد أن يصل اقتصادنا إلى هذا الدرك.
من طبع الحياة المشقة، ولا توجد حياة بلا مشكلات ودون تحديات، وليس عيبا أن نعاني المشكلات، فكل المجتمعات تعاني تحديات ومشكلات اقتصادية متجددة. لكن العيب أن نبقى سنوات لا نقدر درجة خطورتها، وأن نلوك الحديث فيها دون الوصول إلى حلول واضحة ومسؤوليات ملزمة. والعيب أن نملك الإمكانات المادية والكفاءات البشرية لمواجهة هذه التحديات، ثم نكتشف أننا لسنا على الطريق الصحيح لحلها.
لقد بات الجميع يعلم الآن أن للأزمات إرهاصات، لكن بعضنا ربما لا يدرك أنها إذا أزفت لا تستأذن أحدا. وما نواجهه من مخاطر لم تعد ضربا من ضروب الاحتمالات البعيدة، بل غدت أقرب مما يتصور بعضنا. وإذا لم نبدأ - كما قلت في مقالة سابقة - بإدارة بلادنا وفق تفكير استراتيجي متطور يستوعب تغيرات الزمان ويستلهم مسارات المستقبل، فسنجد أنفسنا عاجزين عن وضع حلول حقيقية ودائمة لمشكلاتنا الملحة في مجالات البطالة، والإسكان، والتعليم، والصحة والبنى التحتية.
لو أخذنا مشكلة البطالة على سبيل المثال، لوجدنا أن المنهج الذي اتبعته بعض مؤسسات القطاع الخاص (ضمن برامجها عن المسؤولية الاجتماعية) كان أكثر فاعلية وكفاءة في تحقيق أهداف السعودة والتوظيف والتدريب وتمويل العاطلين لمساعدتهم على إقامة مشاريعهم الصغيرة. وإنجازات هذه المؤسسات واضحة ومعلنة ويمكن قياسها وتقديرها كميا لأن منهج الحل كان علميا. ولو قمنا قبل عشر سنوات بتبني سياسات اقتصادية تتضمن حوافز مغرية لتشجيع المؤسسات الخاصة على توسيع ما لديها من برامج التدريب والتوظيف والتمويل، وحوافز أخرى لدفع من لم ينخرط منها في مثل هذه البرامج لتبني خطط مشابهة، لكنا قد استوعبنا جزءا من حجم البطالة ولمنعنا على الأقل استفحال المشكلة.
وكنت أتمنى لو قام القطاع الحكومي بتقليد مناهج وتجارب مؤسسات القطاع الخاص الناجحة لتوسيع الدوائر التي تخدم العاطلين من شبابنا وشاباتنا. وفي كل الأحوال لا بد أن يتحمل القطاع العام نصيبا معلوما من جهود التوظيف والسعودة والتدريب. وأن يكون هذا البرنامج واضحا وصريحا، يسير وفق نسب وأعداد مستهدفة سواء في الجانب المدني أو العسكري.
ولا شك أن كل عمل حكومي يمكن أن يدار بمنطق السوق، فمن الخير اقتصاديا أن تتركه الدولة لمؤسسات القطاع الخاص بما فيه برامج التدريب التي تتولى الحكومة الإشراف والإنفاق عليها، بشرط إلزام هذه الشركات بتدريب السعوديين تأهيلهم وفق منهج وبرامج مدروسة وناجحة تؤهل العاطلين لعمل معين كقطاع تجارة التجزئة، أو السياحة، أو نشاط النقل البحري، أو التأمين وغير ذلك. نحتاج إلى برامج مدروسة وناجحة (كبرامج عبد اللطيف جميل، صافولا، البنك الأهلي، ونحوها)، بحيث يمكن قياس إنجازات هذه البرامج بالأرقام سنويا سواء كانت الأرقام المستهدفة في مؤسسات القطاع العام أو الخاص.
المعضلات الاقتصادية الكبرى كمعضلة البطالة تستدعي - كما قلت في مقال سابق عن تجربة ألمانيا - أن نفرّغ لها مسؤولا على درجة عالية من الكفاءة والخبرة ونمده وجهازه الإداري بكل الإمكانات والموارد ليقدم لنا بعد زمن محدد متفق عليه مسبقا خطة استراتيجية ذات آجال متعددة لمعالجة البطالة، على أن يكون لها أهداف واضحة ومحددة تراجع وتعلن دوريا. كأن يكون الهدف تقليص البطالة إلى النصف مثلا خلال خمس سنوات، وإلى الربع خلال عشر سنوات وإلى أقل من الثمن خلال 12 عاما وهكذا.
لم يعد لدينا وقت لإجراءات تقليدية غير مجدية، لقد فاتنا الكثير وأخشى أن يفوتنا كل شيء. علينا بدء مرحلة جديدة نتصدى فيها لقضايانا الاقتصادية بمنطق ومنهج وشفافية عمل الشركات الكبيرة كلما أمكن ذلك، فهذا ما فعلته الأمم الناهضة حديثا كسنغافورة وماليزيا ونحوهما. بلدنا اليوم في حاجة إلى منهج جديد وشخصيات فذة وقيادات استثنائية إخلاصا وعزيمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي