الدية بين العقوبة والتأمين
غني عن القول إن الدية إما أن تكون في النفس وهي دية القتل الخطأ، أو فيما ما دون النفس أي تجب على من يتسبب في قطع أي من أطراف جسد المجني عليه أو الإضرار بحواسه، كمن يفقأ عين أحد أو يُزيل سمعه. وللدية وأحكامها مساحات واسعة في كتب الفقه الإسلامي قديماً وحديثاً. وحوى هذا الإرث الغني الكثير من الدرر، والعديد من الآراء والنقاشات والسجالات الفقهية حول الدية وأحكامها، وكلها ـ على اختلافها ـ تجمع على أهمية الدية وقيمتها بالنسبة للفرد والمجتمع، وقيمتها كذلك كبديل عن الثأر وما يؤدي إليه من إخلال بالأمن والاعتداء على الأنفس. ولقد كان يُنظر قديماً على أخذ المال كبديل للثأر على أنه نوع من المهانة، كما قالت إحدى نساء العرب التي كانت تحرض قومها على عدم أخذ الدية :
ألا لا تأخذوا لبناً ولكن أذيقوا قومكم حد السلاح
فإن لم تأخذوا عمراً بزيدٍ فلا درت لبون بني رماح
ولكن حينما جاء الإسلام، فإن النفوس تهذبت وأصبحت الدية البديل السلمي للثأر، وفي الوقت نفسه جعل الإسلام عقوبة القاتل العمد القصاص، فهدأت النفوس وانتشرت الطمأنينة وتفشى الأمن، وأصبح ينظر للدية على أنها ذات وظائف اجتماعية متعددة، ولعل أهمها الوظيفة الاقتصادية التي توفرها الدية للمجني عليه أو ذويه.
وهذه الوظيفة الاقتصادية أثارت العديد من النقاشات الشرعية حول التكييف الشرعي للدية وكونها عقوبة أم تعويض! ولعله من المهم ألا يتم النظر إلى الدية على أنها عقوبة للجاني، وإلا لانحرف مفهوم التعويض بشكل كبير. وقد يكون سبب النظر إلى الدية على كونها عقوبة هو أنها جاءت كبديل للثأر. وقد قرأت قديماً إحدى رسائل الدكتوراة التي كانت بعنوان الدية بين العقوبة والتعويض، وعلى الرغم من هذا العنوان الذي تمت صياغته على شكل استفهام، فإنه جاء ليوحي بأن الدية التي أقرتها الشريعة الإسلامية تحتمل المعنيين (العقوبة والتعويض). إلا أنني أرى أن الدية لا ينبغي أن تكون محل تساؤل قد يقود في النهاية إلى التشويش على الفكرة التي يتمحور حولها التعويض بصفة عامة، والتي تُعد الدية أحد تطبيقاته في الشريعة الإسلامية. بل حتى وإن اعترفنا أن التعويض أو الدية يحملان في ثناياهما ما يعُرف بالجزاء إلا أن هذا الجزاء يختلف عن العقوبة بمعناها الجنائي، فالدية، أو التعويض، أو الضمان بمفهومة الواسع في الشريعة الإسلامية، يبقى جزاء مدنياً قائماً على فكرة جبر وإصلاح الضرر. كما أنه من غير المناسب اعتبار الدية غرامة مالية، لأنها لا تدخل بيت مال المسلمين بل يستحقها المتضرر، كما أن الأسس الحسابية التي تقوم عليها الغرامة تختلف بشكل كبير عن الأسس الحسابية التي يقوم عليها التعويض. ومن غير الملائم كذلك اعتبار أن الدية هي زجر للجاني بأخذ جزء من ماله، فهي حق للمجني عليه في مال الجاني. والأمر الأهم من ذلك هو أن أخذ الدية لا يمنع من تطبيق العقوبة الجنائية والمتمثلة في التعزير على الجاني. ولذلك فالنظام في المملكة والذي يستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية واضح في هذا الصدد، فهو يستخدم مفهومين مختلفين في الحقوق؛ وهما الحق الخاص الذي يخص المتضرر وجزاؤه التعويض، والحق العام والذي يخص الدولة أو السلطة العامة نيابة عن المجتمع، وعقوبته جنائية بحتة.
وطالما أن التعويض المدني يختلف عن العقوبة الجنائية، وأن من يستحق التعويض في كل الأحوال هو المجني عليه، وأن من يلتزم بدفع الديات في الغالب هي شركات التأمين، فإن الدية لن تكون في مال الجاني بل في مال شركات التأمين، وهذه الأخيرة قادرة على بلورة مفهوم أفضل للتعويض يأخذ في الحسبان الوظيفة الاقتصادية للديات، وهذا لا يكون إلا من خلال تعديل قيمة الدية، ووضع قواعد دقيقة للتعويض تحفظ من كرامة المجني عليه وورثته.