تداعيات زلزال اليابان على صناعة النفط والبتروكيماويات العالمية
الزلزال المدمر، الذي ضرب الساحل الشمالي الشرقي لليابان يوم الجمعة الموافق 11 آذار (مارس) الجاري، وتلته أمواج مد عاتية (تسونامي) عطلت العديد من المنشآت النووية التي تمد البلاد بالكهرباء، إضافة إلى العديد من مجمعات تكرير النفط والصناعات البتروكيماوية، التي أوقفت عملياتها كليا أو جزئيا.
وحظيت الكارثة وما زالت بتغطية إعلامية واسعة ركزت على تداعيات الكارثة صحيا وبيئيا واجتماعيا، وعلى وجه التحديد، ما أسفر عنه الزلزال من انفجارات وتسرب إشعاعي في مفاعلات محطة "فوكشيما دايشي" أدت إلى إجلاء الآلاف من سكان المنطقة، وقطع إمدادات الكهرباء عنها، وتوقف غالبية المنشآت الصناعية في مناطق واسعة من شمال شرق اليابان. وما أحاول تقديمه عبر هذه المقالة رؤية للتداعيات المحتملة على صناعة النفط والبتروكيماويات العالمية، التي تعد المملكة مركز الثقل في كليهما.
ألحق الزلزال الذي يعد الأسوأ في تاريخ اليابان وخامس أسوأ هزة مدمرة على مستوى العالم أضرارا كبيرة في المناطق القريبة من مركز الزلزال شمال شرق جزيرة هونشو.
وكان التأثير الأكبر في مناطق سينداي وكاشيما، حيث تضررت محطات توليد الطاقة الكهربائية والعديد من المنشآت الصناعية، وكذلك البنية التحتية، وسلسلة الإمداد (الموانئ، وشبكة الطرق، والسكك الحديدية، والمراكز اللوجستية). وأصيبت ستة موانئ يابانية على الأقل تتعامل مع حركة التجارة الدولية بأضرار جسيمة قد توقف نشاطها لعدة أشهر قبل استعادة قدراتها التشغيلية. ومن بين الموانئ التي تضررت بشدة موانئ هاشينوهي، وسنداي، وايشينوماكي، وأوناهاما، فيما تضررت موانئ هيتاشيناكا وكاشيما جزئيا، وقد تستأنف عملها خلال أسابيع.
#2#
الضرر الأكبر أصاب قطاع الطاقة الياباني، حيث شل الزلزال المحطات النووية لتوليد الكهرباء في شمال البلاد، التي تولد نحو 12,360 ميغاوات يتم توليدها من خلال 54 مفاعلا نوويا، وتشكل نحو 30 في المائة من إجمالي طاقة توليد الكهرباء في اليابان. وأدى الزلزال إلى خفض طاقة المحطات النووية بنحو 20 في المائة من طاقتها التصميمية. وفاقم الأمر سوءا فقدان نحو 10,831 ميجاوات من محطات الطاقة الحرارية التي يتم تشغيلها جزئيا، وتضرر بعضها جراء الزلزال، وتم إيقافها إما لنقص المشتقات النفطية أو لإجراء فحوص بشأن صلاحيتها للتشغيل الآمن.
وتسبب ذلك في نقص إمدادات الكهرباء لعديد من المنشآت الصناعية والمساكن، ما اضطر شركة طوكيو للطاقة الكهربائية إلى اتخاذ تدابير غير مسبوقة بالإعلان عن تطبيق نظام دوري لقطع الإمدادات الكهربائية.
#3#
التداعيات على صناعة النفط
تعد اليابان ثالث أكبر مستورد للنفط في العالم، وتبنت منذ منتصف السبعينيات الميلادية من القرن الماضي استراتيجية لتقليل اعتمادها على واردات النفط حجر الزاوية فيها توفير نسبة كبيرة من احتياجات البلاد من الكهرباء من خلال الطاقة النووية. واستوردت اليابان في شباط (فبراير) 2011 نحو 4.05 مليون برميل يوميا من النفط الخام منها 1.12 مليون برميل من المملكة التي تحتل المرتبة الأول في قائمة الدول المصدرة للنفط إلى اليابان. وشكلت صادرات المملكة ما نسبته 28 في المائة من إجمالي واردات اليابان النفطية، إضافة إلى ذلك تستورد اليابان نحو مليون برميل يوميا من المشتقات النفطية منها 500 ألف برميل من النفثا، ونحو 430 ألف برميل من غاز البترول المسال LPG تأتي نسبة كبيرة منها من المملكة أيضا. وتعد اليابان أيضا المستهلك الأكبر عالميا للغاز المسال، حيث بلغت حصتها في عام 2010 نحو 36 في المائة من إجمالي صادرات الغاز المسال في العالم، النسبة الأكبر منها تأتي من قطر.
ولدى اليابان مصاف لتكرير النفط بطاقة إنتاجية إجمالية تبلغ نحو أربعة ملايين برميل يوميا، وكانت تعمل مطلع عام 2011 بمعدلات تشغيلية تصل إلى نحو 80 في المائة من الطاقة التصميمية. وتسبب الزلزال في توقف عدد من تلك المصافي، إما كليا أو جزئيا، ما أدى بدوره إلى خفض طاقة تكرير المصافي اليابانية بنحو 775 ألف برميل أو ما نسبته 20 في المائة من إجمالي طاقات التكرير في البلاد. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى خفض طلب اليابان على النفط الخام في الأمد القصير، ما يضغط على أسعاره في الأسواق العالمية.. لكن على الأمد البعيد ستحتاج اليابان إلى استيراد المزيد من النفط، ما يؤدي بدوره إلى تحسن أسعار النفط الخام في السوق اليابانية.
وفي ظل هذا الوضع وتضرر الموانئ والمرافئ في اليابان أعلنت الحكومة أنها ستسحب من الاحتياطي الاستراتيجي الوطني 1.26 مليون طن من النفط، وهو ما يغطي طلب ثلاثة أيام فقط. يذكر أن الاحتياطي الاستراتيجي الوطني في اليابان يغطي استهلاك 113 يوما يضاف إليه احتياطيات القطاع الخاص التي تكفي استهلاك 85 يوما. بموازاة ذلك أعلنت الحكومة اليابانية أنها تهدف إلى رفع معدلات تشغيل مصافي التكرير العاملة إلى نحو 95 في المائة لسد احتياجات البلاد إلى المشتقات النفطية.
#4#
إجمالا زلزال اليابان قد يؤدي إلى تداعيات عدة أبرزها:
• تراجع أسعار النفط الخام عن مستوياتها الحالية العالية، خصوصا إذا توجهت اليابان نحو استخدام الغاز الطبيعي المسال في محطاتها الكهربائية، ما قد يؤدي إلى تراجع الطلب على النفط، وفي ذات الوقت يقود إلى تحسن ملموس في أسعار الغاز الطبيعي، التي ارتفعت حتى الآن بنحو 15 في المائة بعد فترة اتسمت فيها بالضعف سبقت زلزال اليابان.
• في المقابل، من المرجح حصول ارتفاع ملموس، وإن بصورة مؤقتة في أسعار المشتقات النفطية وتحديدا زيت الوقود والديزل، نظرا للحاجة الملحة لتشغيل مولدات الكهرباء في المصانع والمكاتب والمنازل لتعويض انقطاع الكهرباء في اليابان.
ونتيجة للزلزال ارتفعت أسعار الديزل وزيت الوقود بأكثر من 19 دولارا للبرميل في الأسواق الآسيوية، علما بأن أسعار هذه المشتقات فصلية تنخفض عادة بعد انقضاء فصل الشتاء كونها تستخدم في الغالب لأغراض التدفئة.
يذكر أن اليابان تصدر نحو 200 ألف برميل يوميا من زيت الوقود والديزل، لكنها بعد الزلزال ألغت طلبيات لتصدير 600 ألف برميل من هذه المشتقات، إضافة إلى ذلك من المرجح تحسن أسعار الجازولين في الأسواق الآسيوية نتيجة لنقص المعروض منه في محطات التوزيع التي أصبحت طوابير السيارات فيها تمتد لكيلو مترات.
تداعيات زلزال اليابان على صناعة البتروكيماويات
بلغ حجم إنتاج اليابان من البتروكيماويات بنهاية عام 2010 نحو 57 مليون طن تم تصدير 12.5 مليون طن منها، فيما تم استيراد ما يزيد على 1.4 مليون طن من البتروكيماويات السلعية والمتخصصة.
وبفعل زلزال اليابان توقفت العديد من مجمعات البتروكيماويات اليابانية إما بسبب تعطل تلك المنشآت أو لشحة المعروض من النفثا، أو بسبب توقف عدد من المصافي أو تضرر مرافئ وموانئ استيراد النفثا من الخارج. ففي شمال شرق اليابان تم إغلاق أربعة مصانع لتكسير النفثا تابعة لشركات نيبون أويل وميتسوبيشي وماروزيني تزيد طاقتها الإنتاجية الإجمالية عن 2 مليون طن سنويا، وتشكل نحو 31 في المائة من إجمالي طاقة إنتاج النفثا في اليابان.
ونتيجة لذلك ارتفعت أسعار البتروكيماويات الأساسية (العطريات والإثيلين والبروبلين). ويبين الجدول رقم (1) قائمة بمصانع البتروكيماويات اليابانية التي تم إغلاقها بصورة كلية وما تمثله من حجم الإنتاج الياباني. والغالبية العظمى من تلك المصانع من المرجح أن تعود إلى ما كانت عليه قبل الزلزال في غضون ستة الأشهر القادمة. وخلال هذه الفترة من المتوقع أن تنعكس هذه الأوضاع على تحسين هوامش أرباح مصافي تكرير النفط ومصانع البتروكيماويات في كل من كوريا الجنوبية والصين وتايوان التي ستمد السوق اليابانية باحتياجاتها من هذه المنتجات.
جدير بالذكر أن أكبر قطاعين مستهلكين للبتروكيماويات في اليابان هما: قطاع الصناعات الإلكترونية، وقطاع صناعة السيارات، وكلاهما تضرر بصورة كبيرة من جراء الزلزال.
فاليابان تهيمن عالميا على إنتاج المكونات الإلكترونية (أشباه الموصلات والرقائق المستخدمة في أجهزة الاتصال والحواسيب)، حيث يبلغ إنتاجها خمس الإنتاج العالمي منها 40 في المائة من رقائق الذاكرة المستخدمة في الهواتف الذكية. وأغلق عديد من الشركات اليابانية المصنعة للرقائق جراء الزلزال، ما سيؤدي إلى تراجع الطلب على عدد من البتروكيماويات المستخدمة في تصنيعها.
وضمن هذه الشركات عملاقة الإلكترونيات سوني التي قد تظل مصانعها مغلقة لأسابيع، الأمر الذي سيتسبب في شحة بعض المنتجات التي تتميز بجودتها العالية مثل رقاقات الكمبيوتر وأجهزة الاتصال الذكية. يذكر أنه حتى إذا انقطعت شحنات أشباه الموصلات بسبب الزلزال لمدة أسبوعين فقط، فإن النقص وارتفاع الأسعار سيستمران حتى الربع الثالث من العام.
الأمر نفسه ينطبق على صناعة السيارات، حيث أغلقت أكبر ثلاث شركات يابانية وهي: تويوتا، وهوندا، ونيسان غالبية مصانعها في اليابان، ما سيسفر عن نقص في بعض قطع السيارات التي قد تتأثر إمداداتها حول العالم، كما سينتج عن ذلك تقلص الطلب على عديد من المنتجات البلاستيكية التي تدخل في تصنيع تلك السيارات.
الكارثة.. والدروس المستنبطة
كل أزمة أو كارثة تقدم حزمة من الدروس.. ولعل أبرز ما قدمته كارثة زلزال اليابان حاجة العديد من الدول، سواء تلك التي لديها مفاعلات نووية أو التي تخطط لبناء مفاعلات نووية لمراجعة معايير السلامة والأمن في هذه المحطات.. فكارثة شيرنوبل في روسيا ومن بعدها كارثة مفاعل فوكوشيما في اليابان جرس إنذار للمخاطر المرتبطة بالمحطات النووية، سواء بسبب الزلازل أو الفيضانات أو غيرها.
ومع أن الأجيال الجديدة من المفاعلات النووية أكثر أمانا إلا أن تلك الكوارث تستدعي التفكير مليا في التوجهات الإقليمية لبناء محطات نووية لتوليد الكهرباء خصوصا مع وجود البدائل كالفحم والنفط والغاز الطبيعي والطاقة المتجددة .. ففي بلد صناعي متقدم كاليابان لديه رصيد متراكم من الخبرات في التعامل مع الكوارث الطبيعية لم تنجح الجهود بعد للسيطرة على مفاعلات محطة فوكشيما والإشعاعات المنبعثة منها.. والسؤال هنا: ما الذي سيحدث لو- لا قدر الله- حصل تسرب إشعاعي مستقبلا من أحد المفاعلات النووية في منطقتنا؟
كارثة زلزال اليابان دفعت العديد من الدول الصناعية ومن بينها الصين مثلا إلى تعليق المصادقة على بناء محطات نووية جديدة في البلاد، ومن المرجح أن يكون من الصعب على اليابان بناء محطات نووية جديدة لتعويض تلك التي دمرها الزلزال، الأمر الذي يبقي أمامها خيار التوجه نحو الحصول على إمدادات مستقرة من النفط والغاز الطبيعي المسال، سواء من الدول الآسيوية أو من دول الخليج.
ومع ذلك لا يمكن توقع تخلي الدول الصناعية تماما عن الطاقة النووية في المدى القريب على الرغم مما حصل في اليابان حتى مع تقادم العديد من المحطات النووية العاملة فيها. لكن المؤكد أن يسرع زلزال اليابان وتيرة التوجه في العديد من الدول الصناعية نحو تطوير المصادر المتجددة للطاقة.
كلمة أخيرة.. قد يكون من المناسب التفكير في مبادرات سريعة من قبل أرامكو السعودية لإمداد اليابان أو شركائنا من الشركات اليابانية باحتياجاتها من المشتقات النفطية وتحديدا الديزل وزيت الوقود والجازولين والنفثا ترجمة لعلاقات الشراكة الاقتصادية التي تربطنا مع دولة صديقة كاليابان تمر بكارثة تعد الأسوأ في تاريخها الحديث.