سباق في حب الوطن
شعرنا بعد الخطاب المؤثر الذي وجهه خادم الحرمين الشريفين للأمة قبل أيام وكأنه يفتتح سباقا جماعيا (ماراثونيا) في حب الوطن! كل ما في خطابه كان ينبض بحب هذا الملك لبلده ولشعبه. أشعرنا بأنه يدعونا جميعا لأن نبادل وطننا وأنفسنا حبا بحب. والمسألة ليست مجرد عواطف، بل يجب أن تكون قضية حب حقيقي يحوّل المشاعر العاطفية إلى برامج عملية. إن لكل حب آية، وآية حب الأوطان الاستعداد للبذل والفداء. وهذا لا يتأتى إلا بتمام إخلاص المحبة. والإخلاص لا يولد إلا في مجتمع يشعر الناس فيه بالانتماء الحقيقي لأرضهم، والانتماء لا يتحقق إلا حينما يشعر الناس بأنهم يشاركون في بناء أوطانهم، ويعرفون حقوقهم ومسؤولياتهم، ويعبرون بحرية عن آرائهم، ويسهمون في صنع قراراته.
جمع المولى - عز وجل - لهذا الملك محبة حقيقية في قلوب الناس وهيأ له شعبية واسعة؛ لسبب ربما بدا بسيطا عند بعضنا، بيد أنه عظيم عند ربنا، وهو الصدق والإخلاص. في خطابه أشعرنا وكأنه يقول للجميع حكاما ومحكومين: أيها الناس هذه بلادكم وديار آبائكم ونحن جميعا حماتها الحقيقيون، وإنا وإياكم على طريق واحد وعلينا أن نتذكر نعمة الله علينا؛ إذ ألف بين قلوبنا، فأصبحنا بنعمته إخوانا. أما عندما انتهى من خطابه ونحّى - حفظه الله - أوراقه جانبا ورفع رأسه نحو شعبه، طالبا منهم أن يدعو له بتمام الصحة العافية، فقد فاضت أعين الناس بالدموع، وتحشرجت الكلمات في الصدور، ولهجت الألسن بالدعاء له، لقد شعروا بصدقه، فبادلوه حبا بحب.
إذا نحينا العواطف جانبا، فلا بد أن نصارح أنفسنا بأن حبنا الحقيقي لبلدنا يقتضي منا أن نخلص النصح والعمل. لقد تكالبت علينا التحديات الاقتصادية والاجتماعية والمخاطر الأمنية في العقود الأخيرة حتى أصبحت تهدد أمننا واستقرارنا ومستقبل أبنائنا. وقد تعاملنا معها بتراخٍ لا يناسب جديتها ومستوى خطرها، مع أن الدنيا تتغير من حولنا والتحديات تشتد. والآن لم يعد هناك وقت للتردد في الأخذ بعزائم الأمور.
كانت وستظل مشكلة التنمية في بلادنا مشكلة إدارية بالدرجة الأولى! لم تكن مشكلة مال، بل رجال. لقد تحدثنا كثيرا في السنوات الأخيرة عن تحديات تنموية متعددة كان من أهمها مشكلتا البطالة والإسكان، لكن جهودنا في وضع حلول مقبولة لها ما زالت تراوح مكانها. والمخلصون لا يقلقهم وجود التحديات، بل يقلقهم ألا نكون على الطريق الصحيح الموصل لعلاجها. والمنهج الصحيح لمواجهة هذه القضايا المصيرية - كما أشرت في مقالة سابقة - أن ننشئ فرق عمل متفرغة تماما وغير مشغولة بأي عمل آخر لتتولى هذه المهام الوطنية، نؤلفها من كفاءات مؤهلة مشهود لها بالإخلاص والأمانة، ترتبط مهامها بمدى زمني معلوم ومحدد، بهدف وضع استراتيجيات نهائية (لكنها مرنة) لحل مشاكلنا الاقتصادية المصيرية؛ كي تضعنا على الطريق الصحيح للسيطرة عليها.
علينا أن ننتبه إلى أن المشاكل لها أسباب مباشرة وأخرى غير مباشرة، وكثيرا ما تكون الأخيرة أخطر من الأولى. فالبيئة البيروقراطية المتخلفة والتعقيدات الإدارية الحكومية المعطلة التي تواجه المبادرين من الشباب عند بدء مشروع صغير هي من الأسباب غير المباشرة التي تعمق مشكلة البطالة. من غير المعقول أن نذلل ونبسط الإجراءات الإدارية ونجمعها الخدمات في مكان واحد للأجانب تحت راية تشجيع الاستثمارات الأجنبية، بينما أبناء البلد من صغار المكافحين يتعرضون لصنوف التعقيد والتأخير وألوان الاحباطات التي تدفعهم ليحلوا في نهاية المطاف ضيوفا على جماعة العاطلين، إننا نخرب بيوتنا بأيدينا. إن الأجيال الصاعدة في حاجة إلى تأمين أمنها الوظيفي، والحب الحقيقي للوطن يدعونا لتحقيق هذا الأمن لهم. ولن ننجح في هذا دون تطوير مجمل الاقتصاد، بما في ذلك أنظمته الاجتماعية والاقتصادية والرقابية والقضائية.
وإذا تمكنا من السيطرة على البطالة في الأجل القصير، من خلال توظيف أعداد من العاطلين عن العمل لا تقل عن أعداد الداخلين الجدد إلى سوق العمل، ثم نجحنا خلال المدى المتوسط في تخفيض معدل البطالة ذاته معتمدين على سياسات تحفيز نمو مناسبة في معدلات التوظيف ومعدلات الإنتاجية، حيث نصل بالعمالة الوطنية لمستوى يحقق ميزة تنافسية لاقتصادنا على المدى البعيد، فحينها سنكون قد صنعنا مجدا وطنيا خالدا سينقل البلاد نقلة تنموية بعيدة المدى. وإنها لعمرك ليست أهدافا مستحيلة، ولكنها في حاجة إلى رجال من ذوى الإرادات الماضية، والعزائم الصادقة، والجهود المثابرة. الزمن ينادي فمن يستجيب؟