الوظيفة ليست الخيار الأول دائما

تأخذ المفاضلة بين الوظيفة والدخول في عالم التجارة أبعادا كثيرة تتحكم فيها الظروف الاقتصادية والأسرية والاجتماعية وغيرها، بيد أن كثيرين يرون أن رغبة الشباب وجديتهم وقدرتهم على تحمل المسؤولية هي الأمر الحاسم الذي يجعلهم يقدِمون على خطوة التوجه إلى هذا العالم بدلا من البقاء في فلك الوظيفة، سواء كانت حكومية أو أهلية. وضمن سلسلة ملفات ''الاقتصادية'' حول قطاعي التجزئة والخدمات نستعرض اليوم مقالين يصبان في هذا الاتجاه، الأول يؤكد أن الخيار الأول للشباب يجب ألا يكون الوظيفة، على الرغم من كل البريق الذي يزينها، بل إنها يجب أن تكون الخيار الآخير. ويرى كاتب المقال، وهو شاب شق طريقه في عمله الخاص بشكل لافت، أن الشباب لديهم فرصا كبيرة جدا في بلادنا لا يحتاجون معها سوى المثابرة وعدم الاستسلام. المقال الثاني يتطرق فيه كاتبه إلى مصطلح ''مخزن الوظائف المعطل'' الذي أطلقته الجريدة على قطاعي التجزئة والخدمات، فقال: ''إن المخزن الذي يجب لفت الانتباه له هو القطاع المهني الصحي، خاصة في ظل المشاريع العملاقة التي تنفذها وزارة الصحة حاليا''. المقالان يصبان في الاتجاه ذاته، الذي نسعى له، وهو إيجاد فرص عمل وفرص استثمارية لشباب الوطن.. إلى التفاصيل:

#2#

لقد اُشبع موضوع البطالة مناقشة، وتم تقديم الكثير من الحلول ممن هم أجدر وأكفاء مني، ولكن ولأن جميع المجهودات والحلول المطروحة في السنوات الخمسة الماضية لم تحل مشكلة البطالة إلى الآن، فلقد حان الوقت لطرح سؤال مهم ومحاولة الجواب عنه، والسؤال هو لماذا لم تحل المشكلة إلى الآن، خصوصا أن الدولة سخرت جهودها كافة لحلها وقد أوكلت المهمة لمن هم كفؤ لها؟! يا ترى ما الخلل ومن الملوم، هل الدولة ملومة، أم رجل الأعمال، أم المواطن، أم المجتمع، أم أنها الظروف الاقتصادية؟ وللجواب عن هذا التساؤل، دعونا نذكر قصة النمر الصغير.
ذهبت إحدى العوائل الغنية إلى رحلة سفاري واصطادت نمرا صغيرا، أحب رب العائلة وزوجته ذلك النمر فقرروا تربيته، وبالغت هذه العائلة في حب النمر الصغير لدرجة أنها منعته من أن يتبع غريزته لصيد فريسته، وأخرجته من بيئة البرية إلى البيت المريح، فقد كانت تقدم له أنواع الفرائس واللحوم صباحا مساء. وإذا طُلب منهم أن يخرجوه إلى بيئته الطبيعية لكي يصطاد، رفضوا بحجة الخوف عليه وبأنه سيتعرض للخطر والاتساخ، فكيف يمكن أن يخرجوه من قصر بأرضياته الرخامية وحدائقه الغناء إلى الأتربة والأوساخ والخطر المحدق. وبعد أن كبر النمر واشتد عوده قررت العائلة أنه حان الوقت لأن يعيدوا هذا النمر إلى بيئته الطبيعية التي خلقها الله له.
وبعد أن خرج النمر للبرية بدأ يجوع، وانتظر من عائلته أن تحضر له الطعام فلم تفعل، أراد أن يذهب ليحضر الطعام فاكتشف أن الشمس حارقة، وهو الذي لم يتعود عليها، وإنما تعود على بيت مكيف، فعاد تحت الظل. عندما خفت الشمس خرج خلف فريسته فوجد أنها سريعة ولم تأت إليه في صحن كما تعود، وجد أنه من الصعوبة اللحاق بها؛ لأنه لم يتدرب على ذلك من صغره. تفاجأ النمر بصعوبة العيش في بيئته الطبيعية ولم يستطع التعامل معها، ولكن ماذا يفعل؟ فإان لم يجد طعاما فسيموت، وهو لا يستطيع على حر الشمس ومطاردة الفريسة. فأصبح يخلد للراحة معظم وقته ويقضي وقته في مشاهدة النمور الأخرى وهم يقتنصون فرائسهم السمينة والاستمتاع بأكلها، وبعد غروب الشمس وتحسن الجو يخرج ليأكل من بقايا فرائس أقرانه والتي لا تكفي لإشباع قط، وأصبح يبيت معظم لياليه جائعا''. والمشكلة أنه مثل أقرانه جسما ''وصحة'' وحتى في سرعة العدو، ولكن ما يفتقر إليه كان التدريب والتعود منذ الصغر على أن يعيش على غريزته وفي بيئته التي كتبها الله له.

#3#

وما حدث للنمر الصغير أعلاه يمكن تشبيهه بما حدث لبعض أبنائنا بعد طفرة الثمانينيات. فلقد تحسن الوضع المادي للعائلة السعودية وأصبحنا نحرص على توفير حياة مرفهة لأطفالنا منذ نعومة أظفارهم إلى أن يصلوا سن الـ 20 وهو سن العمل. ولا نكتفي بخدمتهم وتقديم الأكل والشرب فقط، بل نعطيهم مصروفا ''أسبوعيا'' ليخرج مع أصدقائه في عطلة الأسبوع، ولا ننسى مصروف السفر إن أراد السفر، وهذا ينطبق على العوائل ذات الدخل المحدود والمتوسط والمرتفع. ولم نكلف أطفالنا بمسؤوليات منذ الصغر أو حتى بالعمل في الإجازات الصيفية ليتمكنوا من الحصول على بعض الدخل حتى لو لم يكونوا في حاجة، وليس هذا فقط، بل أصبحت فكرة أن يعمل الفتى في سن مبكرة ولو في الإجازة هي وصمة عار للعائلة. فأصبح النمر السعودي يأكل ويشرب ويسافر ويلعب ويستمتع بالحياة لمدة 22 سنة، وبعد ذلك، نزج به في سوق العمل ونطلب منه أن يخرج إلى العالم الحقيقي، حيث لا يوجد فيه أم أو أب يشفقون عليه ويدللونه، ونطلب منه أن يتنافس مع نمور أفضل منه في التدريب والتعليم والاستعداد، لكي يحصل على عمل.
أعتقد أن هذا هو الخلل، وهذا هو السبب الذي جعلنا نعاني من البطالة ولا نجد حلا لها. فالحل ليس بوضع برامج للتوظيف أو إجبار رجال الأعمال على أن يوظفوا العاطلين عن العمل، ولكن الحل أن نربي الجيل الجديد على العمل وتحمل المسؤولية منذ نعومة أظافره. ويجب في ذلك توعية الأسر ووضع برامج في المدارس لتدريب الأطفال على تحمل المسؤولية وعلى العمل داخل المدرسة وخارجها. يجب أن تكون هذه استراتيجية الدولة، ويجب أن تطبق على جميع الأبناء بغض النظر عن وضع عوائلهم المادية أو الاجتماعية. يجب أن نغير ثقافة المجتمع ليصبح عمل الفتى الصغير فخرا لا عارا، ليصبح صاحب المغسلة، الذي دخله مثل دخل وكيل وزارة، يفتخر بعمله. يجب أن نُعد محاضرات لرجال الأعمال الناجحين، الصغار منهم والكبار في مدارس المتوسطة والثانوية ليخبروا الجيل الجديد كيف عملوا وكيف نجحوا وكيف تغيرت حياتهم إلى الأفضل، ليكون بذلك قدوة وحافزا لهذا الجيل الجديد. ومن دون ذلك فنحن ندور في عجلة مفرغة وكمن ينفخ في قربة مشقوقة.
رجل الأعمل يستطيع أن يتحمل المسؤولية الاجتماعية تجاه المجتمع، لكن ما لا يستطيع أن يتحمله هو أن يوظف شخصا لا يريد أو لا يستطيع أن يعمل أو كليهما معا، فهو بذلك يضره ويضر عمله. والدولة لا تستطيع أن تستوعب جميع المواطنين، ولكن بلدنا فيها خيرات كثيرة تستطيع أن تستوعب جميع المواطنين، وهذا ليس بالكلام النظري، لكني جربته ورأيته بأم عيني، ولكن من المستفيد من هذه الخيرات؟ المستفيدون هم إخوان لنا تربو في بيئة تحثهم على العمل وتحمل المسؤولية، فيأتي من بلده براتب 500 ريال ليصبح دخله في السعودية 20 ألفا أو 50 أو أكثر.

#4#

وهناك أمثلة عدة تدر على صاحبها راتبا بحجم راتب وكيل وزارة أو أكثر، وعلى سبيل المثال لا الحصر لبعض الأعمال التي يتجنبها السعوديون وهي تدر دخلا عاليا. مندوبو المبيعات سواء أدوية أو مطبوعات أو غيرها، فدخله يتراوح بين 8 و30 ألف ريال شهريا، العماله الذين نراهم يجمعون الحديد والسكراب، دخل صاحب السيارات الديانا (الشاحنة) لا يقل عن 25 ألف ريال شهريا، وصاحب الوانيت لا يقل عن 13 ألف ريال. مثال آخر مغاسل الملابس، صافي دخل المغسلة يتراوح بين 8 و20 ألف ريال شهريا''. ومحال البنشر دخلها لا يقل عن 12 ألف ريال، فني تركيب مكيفات سبلت والتي لا تحتاج إلى أكثر من يوم واحد تدريب، دخله الشهري يصل إلى 20 إلف ريال على الأقل، والقائمة تطول.
والمضحك المبكي أن أحد رجال الأعمال الأثرياء طلب أحد الحلاقين العاملين في مدينة الرياض ليرافقه في سفره وحله وترحاله براتب ثمانية آلاف ريال شهريا، فرفض الحلاق؛ لأن دخله أعلى من ذلك بكثير.
ونصيحة مُجرب، لكل عاطل عن العمل أو مقبل عليه، دع خيار الوظيفة سواء الحكومية أو وظيفة القطاع الخاص آخر الخيارات وليس أولها، ولا تقنع بما دون النجوم، فراتب الستة آلاف او حتى الثلاثين ألف ريال شهريا'' ليس أقصى ما يمكن أن تصل إليه.

شركة تداولات - الرئيس التنفيذي
[email protected]

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي