معالي الأمين أرجوك اسمعني..
(1)
تُرجمت الإرادة الملكية للإصلاح بأمره السامي بتأسيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، والمتضمن أمره قوله رعاه الله: وانطلاقاً من قول الله تعالى: ''ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين''، واستشعاراً منا للمسؤولية الملقاة على عاتقنا في حماية المال العام ومحاربة الفساد والقضاء عليه، على هدى كريم من مقاصد شريعتنا المطهرة التي حاربت الفساد, وأوجدت الضمانات, وهيأت الأسباب لمحاصرته, وتطهير المجتمع من آثاره الخطيرة, وتبعاته الوخيمة على الدولة في مؤسساتها, وأفرادها, ومستقبل أجيالها, أمرنا بما هو آت: أولاً: إنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد, ترتبط بنا مباشرة. ثانياً: يعين الأستاذ محمد بن عبد الله الشريف رئيسا للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بمرتبة وزير''.
(2)
الفساد في اللغة: من فسد فسوداً فهو فاسد, والمفسدة خلاف المصلحة، وهو نقيض الصلاح وخروج الشيء عن الاعتدال، ويقال: فسد الشيء بمعنى أنه لم يعد صالحا.
أما في الاصطلاح الشرعي: يدور التعريف الفقهي على المعنى اللغوي, فهو يأتي تارة بمعنى إصابة الشيء بالعطب, ومرة بالاضطراب والخلل، ومرة بمعنى إلحاق الضرر.
أما الفساد الإداري بالوظائف العامة فيعرفه صندوق النقد الدولي: ''بأنه سوء استخدام السلطة العامة من أجل مكسب خاص, يتحقق حينما يتقبل الموظف الرسمي رشوة أو يطلبها أو يستجديها أو يبتزها، وقد يكون ذلك مقترناً بسوء استخدام السلطة حينما يقدم رجال الأعمال من القطاع الخاص الرشا بقصد التحايل على السياسات العامة والقوانين أو اللوائح للحصول على ميزة تنافسية أو ربح أو مزايا شخصية, ويمكن أن يحدث سوء استغلال السلطة العامة أيضاً من أجل فهم شخصي حتى لو لم يحدث تقديم رشوة, وذلك عن طريق محاباة الأقارب أو التوصية بهم, أو سرقة موارد الدولة أو تبديدها''.
كما تلاحظ فإن الفساد مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصطلح سوء استخدام السلطة الذي يُعّرف بأنه: ''قيام من تولى أمراً من أمور الأمة أو عهد إليه به, بالاستفادة أو الانتفاع من عمله أو ولايته لمصلحته الشخصية أو لمصلحة قريب أو صديق, أو استعمال قدرته وقوته الممنوحة له بقصد الانتقام والتشفي''.
لقد حذر الباري ــــ جلا وعلا ــــ من الفساد، فقال تعالى: ''ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمت الله قريب من المحسنين'' سورة الأعراف آية, إن الله جعل الإنسان خليفة من أجل الإعمار والبناء، فقال تعالى: ''قال يا قوم عبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب'' سورة هود آية 61, فالفاسد ليس عنصر هدم وتخريب، بل عنصر تفويت الفرص على الإصلاح والعمران وقتل الهمم وتشجيع الباطل والدعوة لشيوعه كي تنتشر شِرعة الغاب فيأكل القوي الضعيف.
إن الضلال الذي ما بعده ضلال أن يتأول الفاسد النصوص والوقائع لتسويغ باطله وتحليله بدعوى صلاح القصد، قال تعالى: ''إن الله لا يصلح عمل المفسدين'' سورة يونس آية 81, أن الغاية لا تبرر الوسيلة مطلقاً.
إن قضايا الفساد الكبرى ليست جناية وحسب، فحينما تكون الأمة في حالة حرب ساخنة أو باردة تصبح شبه خيانة عظمى؛ لأن إضعاف الجبهة الداخلية هو شكل من أشكال مظاهرة العدو وفت عضد المدافعة.
(3)
إن اختيار الموفق لكل خير العادل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لمعالي الأستاذ محمد الشريف كأمين عام للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد بعثت برسالة قوية للمفسدين فبالمقدمات تعرف النتائج.
ومعالي الأستاذ محمد الشريف لا أعرفه إلا من خلال موقفين أحدهما زيارتي له في بيته استجابة لدعوة عشاء رسمية وعامة قرأت فيه الكرم واللطف والعفة والصمت, أما الموقف الآخر الذي فاجأني به عنايته بقضية الفساد والإصلاح الإداري والدفاع عن حقوق المواطنين بقوة المكلوم، وهذا صنف جيد من البشر حين يفكر القوي في الضعيف، فما بالك إذا كان هذا القوي رئيس مجلس إدارة لأحد كبرى الشركات العقارية ومسؤول بارز في المالية العامة.. يا سيدي إنه أحد نبلاء هذه الدولة الذين ورثوا أخلاق وطن التوحيد وتوحيد الوطن، فهمهم المصلحة الوطنية الكبرى ومخلصون لقادتهم, وقادتهم عبر 300 سنة من فن الحكم يعجبون بالرجال حتى إذا كان عدوهم، فإذا انكسر احتضنوه, إليك نصاً نقلته من كتابه ''جوهر الإدارة'' دونته في كتابي ''أركان القيادة'' حينما بين الخلل في أداء المدير بقوله: ''غالباً ما يقرب المدير حوله ضعاف الشخصية ومحدودي القدرات والمواهب من مساعدين ومستشارين؛ لأنه يجد أن ذلك أسهل لتقبّل توجيهاته وتعليماته وتنفيذها دون إبداء رأي أو معارضة، وكلما قلَّت ثقة هذا المدير في نفسه برزت هذه الظاهرة أكثر في محيط إدارته....''.
ويقول أيضاً: ''تتصف قراراته بالتخبط والفردية والتعارض, إذ ليس هناك منهج واضح في دراسة المشكلات وإشراك العاملين في بلورتها أو استقاء آرائهم حولها أو الاستفادة من تجاربهم''. ويقول أيضاً: ''ينظر المدير في هذه البيئة الإدارية إلى العاملين بنظرة دونية يشوبها الكثير من التعالي والكبرياء وربما الغرور، ويحس إحساساً داخلياً يحاول إخفاءه ويظهر عليه أحيانا, إنهم وجدوا لخدمته وتأييده وتهيئة المناخ له للعمل في راحة تامة دون مشكلات''، ويقول أيضا: ''يعمل المدير على تركيز معارفه وأقاربه والمحسوبين عليه في وظائف قريبة منه لكي يستمد منهم قوته ونفوذه، ويسخرهم لتنفيذ ما يصدره من أوامر وقرارات وتبني السياسات التي يؤمن لها, وشيئاً فشيئاً يصبح لديه نوع من الإحساس بالعظمة، وأنه أصبح مطاعاً في كل شيء، فيسارع أصحاب المصالح إلى التقرب منه ودعوته لحضور مناسباتهم وبناء علاقات قوية معه مبنية على قضاء مصالح متبادلة، ويبدأ في استخدام نفوذه لتحقيق مكاسب ومصالح شخصية ومادية، وغالباً ما يبدأ هذا التوجه لديه بشيء من الحيطة والحذر والكتمان، ثم لا يلبث أن يصبح سمة ملازمة له, ويصبح العمل بالنسبة له أمراً ثانوياً ووسيلة للهيمنة واستخدام النفوذ وقضاء المصالح الخاصة''.
(4)
إن التناصح والتعاون على البر هو وسيلتنا الشرعية في نظام الحكم الإسلامي السعودي، كما أنها طريقتنا التشاركية في إدارة الشأن العام، وعليه فإني أقترح لمعالي الأمين ما يلي:
أولاً: رَكِّز على الرؤية، وحدد مجال الهيئة بالعمل من خلال الوزارات والهيئات الحكومية الأخرى، وعلى رأسها هيئة التحقيق والادعاء العام ووزارة العدل والمجلس الأعلى للقضاء.
ثانياً: طَوِّر نظم الضبط والرقابة الداخلية بالتعاون مع الهيئات والمؤسسات الدولية المعنية بمعايير مكافحة الفساد والشفافية، ما يرفع من كفاءة عمل ديوان المراقبة العامة والمباحث الإدارية أو شركات التدقيق المحاسبي.
ثالثاً: شَجِّع أعضاء مجلس الشورى نحو المسآلة وفق تفاهم مشترك وآلية تعاون وتفاعل.
رابعاً: استقطب أفضل الكفاءات السعودية القوية الأمينة التي ستضيف قوتها إلى قوتك، وتستكمل نقاط ضعفك إن وجدت، وهم كُثُر، واحرص على وضع سلم عالٍ للرواتب لزيادة مناعتهم من الاختراق.
خامساً: انشر ثقافة محاربة الفساد عبر وسائل الإعلام والإعلان وحملات العلاقات العامة كي تصبح قضية وطنية أصيلة تحصّن خلاله المجتمع ذاتياً.
سادساً: ركز على قضايا الفساد الكبرى ولا تفرق أو تستنزف نفسك في قضايا هامشية وصغيرة.
سابعاً: استعن بمستشارين قانونيين ذوي خلفيات شرعية مهمة، ويفضل إذا كانت له خبرات قضائية من أجل دراسة القضايا للتأكد من سلامتها الكيدية أو التضخيم أو الشبهة التي لا تتوافر فيها أدلة وبراهين وقرائن معتبرة.
ثامناً: ضع نظاماً للحوافز والحماية القضائية لمن يدلي بمعلومات لكشف الفساد.
تاسعاً: طور التشريعات والأنظمة الوقائية مع اقتراح المؤسسات المساعدة للحد من الفساد كإنشاء هيئة وطنية للمناقصات العامة.
عاشراً: شكل فريق رصد لكل ما ينشر عن الفساد ثم غربلته وتحليله كي ترقى إلى قضايا مع العناية بقنوات الاتصال والاستماع المختلفة وإتاحتها للمواطنين.
الحادي عشر: استعن بالخبرات الدولية المهنية والتجارب المشابهة.
الثاني عشر: أبرز تجربتنا الوطنية عبر الدفاع عن المملكة بالمحافل الدولية وفوت الفرصة على المعترضين عبر تقارير دورية ذات مصداقية عالية.
(5)
إن الفساد حالة إنسانية وعالمية حتى في الدول الأكثر تقدما، ولا يمكن لأي عاقل المطالبة بالقضاء عليها قضاءً مبرماً، إنما المعوّل تطويقها، وهي ليست بالأمر الصعب فنحن نمتلك قيادة ذات إرادة إصلاحية واضحة وشعب ضميره يقظ يغذيه الدين وشيم العرب من نخوة وحياء من العيب، حتى من يسرق فينا يتأول ولا يجاهر بل ينزوي وبقية الخير فيه تلومه ليل نهار, إننا أكبر من الفساد بكثير، فدورنا التاريخي في الجزيرة العربية يتعدى المال إلى الرسالة هكذا كنا ونحن اليوم وكذلك غداً.
أيها السعوديون .. نهضتنا بخير.