مخاطر التوظيف القسري

روح التفاؤل التي سرت بعد القرارات الملكية الأخيرة أدت إلى حراك إيجابي في المشهد العام لاقتصادنا. ولعل أهم أثر لهذه القرارات، بجانب تحسين مستوى معيشة المواطنين، هو إعادة التأكيد على الحاجة الماسة إلى بذل جهود مركزة وقوية لمواجهة مشكلة البطالة في المديين المنظور والبعيد. البطالة مشكلة معقدة ولها جوانب متعددة، وتعد بحق أخطر تحدٍ اقتصادي يواجهه مجتمعنا خلال العقود الخمسة الأخيرة. وقد اتضح أخيرا أن حجمها أكبر بكثير جدا مما كان يظن ويقال. فقد تقدم لبرنامج ''حافز'' لتعويضات البطالة نحوٌ من مليوني عاطل. وحتى لو افترضنا أن نصف هذه العدد لا ينطبق عليه شرط المعونة لسبب أو لآخر، فإن المليون الآخر هو رقم مذهل بكل المقاييس! ويعكس خللا جسيما في اقتصادنا يستدعي استنفارا وعملا جادا ومتواصلا على كل المستويات الحكومية والخاصة من أجل السيطرة عليه، فليس من مصلحة الاقتصاد ولا المجتمع بكل أطيافه تجاهل هذا الخطر.
ومهما كانت أسباب بطالة شبابنا وشاباتنا، فالمجتمع كله مسؤول عن هذه الظاهرة. ويجب أن نكف عن تقاذف المسؤولية وتوجيه اللوم للعاطلين. علينا أن نقر بمسؤوليتنا الجسيمة عن استفحالها، فقد تراخينا عن التعامل معها بجدية طيلة العقدين الماضيين. والآن ليس أمامنا خيار سوى أن نبدأ بمواجهة المشكلة، ولكن بشكل منهجي ومؤسساتي سليم. والمنهج السليم هو الذي اتبعته ألمانيا في تسعينيات القرن الـ 20 زمن المستشار شرورد، بالبحث عن كفاءة وطنية متخصصة واستثنائية ومتميزة جدا، نجلبها من أي جهاز حكومي أو شركة خاصة، ونكلف صاحب هذه الشخصية أن يتفرغ لهذه المهمة الوطنية تفرغا تاما، ونيسر له كل دعم مادي ومعنوي وإداري يحتاج إليه. على أن يلتزم بفترة زمنية محددة (ستة أو ثمانية شهور مثلا كحد أقصى) يقوم خلالها هو وفريق عمله بسبر غور جوانب هذه المعضلة الشائكة فيحددون مفاصلها الكبرى، ويتعمقون في تفاصيلها الصغرى، ويدرسون مختلف النماذج العالمية، ليقدموا للأمة في نهاية المطاف حلا علميا وعمليا قابلا للتطبيق تحت إطار استراتيجية قصيرة وطويلة الأجل واضحة المعالم دقيقة الأهداف. حيث نتمكن أولا من لجم استفحالها، ثم ننطلق منها لنقلص من حدتها تدريجيا وفق نسب معلنة ومعلومة خلال عشر سنوات مثلا، حتى نصل بها لمستويات تعد مقبولة في العرف الاقتصادي (4 في المائة من حجم قوة العمل).
لكن علينا في خضم هذا الحراك أن نحذر من أن يدفعنا الحماس للأخذ بسياسات خاطئة أو تصرفات غير سليمة في أسلوب معالجة قضية سعودة الوظائف في القطاع الخاص. فهذه لا تتم بالأوامر القسرية، وإنما بالتوافق والتراضي وباستخدام أنظمة الحوافز. والأهم أن نبدأ بالشركات الكبرى، ولا نقرب الشركات المتوسطة ولا الصغيرة حتى يتم إصلاح هيكل سوق العمل. ذلك أن أي سوء تصرف أو حتى مجرد إشارات بتدخل حكومي قسري سيترك أثرا سلبيا على قطاع الأعمال ويدفع الشركات ورؤوس الأموال للاستقرار في دول مجاورة. وقد اعتذرت بالفعل في الأسبوع الماضي شركة دولية لرجال أعمال محليين عن القدوم للسوق السعودي وفضلوا العمل من دبي؛ لذا فإن إصلاح أوضاع البطالة لا يكون بالتدخل القسري في قوى السوق، وإنما بتهيئة البيئة الجاذبة لتوظيف السعوديين. أتمنى ألا نقع في الخطأ نفسه الذي وقعنا فيه قبل سبع سنوات.
لن نصل لحل لهذه المعضلة إذا ظل كل طرف في المجتمع يقذف بالمسؤولية على الطرف الآخر، أو تركنا مسؤولية وضع الحلول مفتوحة زمنيا، أو إذا فرضنا التوظيف قسرا على شركات القطاع الخاص وخاصة الشركات المتوسطة والصغيرة. لا خلاف بين الجميع على نبل هدف السعودة، الخلاف هو على أسلوب تحقيق هذا الهدف. كلنا مع السعودة، وكلنا مع توفير وظائف للعاطلين. لكن لنحذر من التهاون في وضع خطة عمل، ولنحذر من أسلوب التدخل القسري، لأنه ببساطة سيزيد الوضع سوءًا، والله من وراء القصد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي