تشريعات مع وقف التنفيذ

النظام ركن أساسي لا يمكن أن تقوم الحياة من دونه، والنظام معناه أن تيسير الأمور بشكل صحيح وعلى وجه مطرد مستقر، وهذا لا يتم إلا إذا وجدت قواعد عامة يجب على جميع الأفراد الالتزام بها واحترامها - ولو بالقوة عند الضرورة - ومن هنا جاءت فكرة القوانين والأنظمة لتنظم علاقات المجتمع بعضهم ببعض، ولترسم الحقوق والواجبات؛ لذا من البديهي ومن المسلم به أن القوانين والتشريعات تعتبر أداة لتطوير المجتمع وتوجيهه الوجهة التي تكفل له النهوض والتقدم، وأن هناك علاقة حتمية وطردية بين تطور الدول والشعوب وبين تطور التشريعات والأنظمة واحترامها. وفى المجتمعات الراقية، تُقاس درجة الرقى بمدى وجود أنظمة تحدد الحقوق والواجبات، ومدى احترام الدولة لهذه الحقوق، وكذلك مدى معرفة المواطن بواجباته، ومدى استعداده للوفاء بهذه الواجبات.
وعلى الرغم من أننا دولة من أفضل الدول في التشريعات والقوانين؛ لأن مصدر التشريع لدينا ينطلق من الإسلام، ولأن لدينا حزمة ضخمة من التشريعات والقوانين في مختلف مجالات الحياة، إلا أننا نعاني في الوقت ذاته من مسألة عدم التطبيق الكامل للكثير من تلك القوانين، ونجد التساهل واللامبالاة في كثير من المجالات من قبل بعض الأطراف، وهذا ينذر بكارثة إن استمر الوضع على هذا المنوال.
ولو أخذنا موضوع السعودة (لأهميته وخطورته) مثالا عمليا لموضوع التشريعات التي تحكمه ومدى الالتزام بها لوجدنا الوضع يثير الاستغراب والتعجب، وأعتقد جازما أننا لو طبقنا ربع التشريعات المتعلقة بالسعودة والتوظيف كاملة غير منقوصة لكنا الآن في حال غير الحال، ولكن تمر السنوات ونعود دائما لنقطة البداية ونمارس اللعبة المملة نفسها.
العاقل يدرك أن التشريعات المعطلة يقف وراءها احتمالان لا ثالث لهما، الأول أن من وضعوا تلك التشريعات والقوانين كان يجلسون بأريحية كاملة يفصلون تشريعات ليست ذات علاقة بالواقع أو على أقل تقدير لا تراعي العديد من معطياته ومكوناته. والثاني أن هناك من يملكون القدرة على الالتفاف حولها والنفاذ من ثغرات تركها صناع التشريعات للزمن يعالجها ويسدها. وكلا الاحتمالين يحدثان حالة مستمرة من استنزاف الوقت والجهد فيما لا طائل له. من يصيغ التشريعات عليه أن يبذل مزيدا من الجهد في دراسة معطيات الواقع، ينزل إلى الميدان ليعرف ما يمكن تنفذه وما يصعب تنفيذه وما يستحيل تنفيذه، يقترب بشدة من هؤلاء الذين تؤثر تلك التشريعات بشكل مباشر في مقدراتهم وأنشطتهم ليبحث معهم عن مساحة مشتركة تحقق أهداف المجتمع وأهدافهم في ذات الوقت، يضع مصالح جميع الأطراف في الاعتبار وقبل أن يصيغ تشريعا بالمنع عليه أن يصيغ تشريعا بالإتاحة. فعندما نتجه لرفع معدلات السعودة في القطاع الخاص وهو القطاع الأكثر استيعابا لفرص العمل والأكثر اضطلاعا بالمساهمة في حل مشكلة البطالة، ليس من الكياسة أن نتوقع أن هذا القطاع سيستسلم للتشريعات الملزمة ويفتح أبوابه على مصاريعها لطلاب العمل من السعوديين وهو القطاع الذي تحركه دائما حسابات التكلفة والعائد، وهو القطاع الذي أدمن وعلى مدار سنوات طويلة عادة البحث عن ذوي الخبرات الجاهزة والقادرة على ممارسة المهام المطلوبة من اليوم الأول للعمل، وهو أيضا القطاع الذي أبدع في الحصول على ما يرغبه وبأقل تكلفة ممكنة. الإدراك الكامل لخصائص واحتياجات هذا القطاع هي نقطة البداية الفعالة لسن التشريعات القابلة للتنفيذ. يبدو أن صناع التشريعات في حاجة إلى المعرفة التسويقية الحديثة التي تؤكد أن هناك فارقا كبيرا بين أن تبيع ما تنتج وبين أن تنتج ما تبيع، في الأولى أنت تملك منتجا (تشريعات) تريد أن تبيعه كما هو، بينما في الثانية أنت تنتج (تشريعات) قابلة للبيع؛ ولذا هناك ''تشريعات راكدة'' وهناك ''تشريعات رائجة'' هناك تشريعات نصنعها أولا، ثم نبحث عن كيفية تطبيقها.. وهناك تشريعات نبحث كيفية تطبيقها قبل أن نصنعها.
أما عن الاحتمال الثاني، فهو بمنتهى الوضوح يتعلق بصراع القوة بين التشريعات والمؤسسات، وهو صراع ينتهي غالبا بهزيمة مروعة للأولى؛ لأن الثانية تتحدث وتتعامل بمنطق السوق.. منطق المال والمصالح والاستثناءات، وهو منطق يمكن هزيمته فقط عندما تقدم مصلحة المجتمع على مصالح الأشخاص. ويبقى السؤال الملح والخطير والظريف في الوقت نفسه: هل بات تطبيق القانون يحتاج إلى قانون؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي