3 مسارات أمام الحكومات الديمقراطية المَدِينة

إن الحكومات الديمقراطية لا تجد من الحوافز عادة ما قد يدفعها إلى اتخاذ قرارات تسفر عن تكاليف في الأمد القريب ولكنها تنتج مكاسب بعيدة الأمد، وهو النمط النموذجي لأي استثمار. والواقع أن قيام الحكومات الديمقراطية بمثل هذه الاستثمارات يتطلب إما زعامات تتسم بالشجاعة أو جمهورا انتخابيا يدرك التكاليف المترتبة على تأجيل الخيارات الصعبة.
إن الزعامة التي تتسم بالشجاعة نادرة, وهو ما يصدق أيضاً على الجماهير الانتخابية المثقفة المطلعة والمشارِكة، وذلك لأن مشورة الخبراء المقدمة إلى الناخبين تأتي مربكة ومحيرة في حد ذاتها. والواقع أن خبراء الاقتصاد من مختلف الاتجاهات يجدون صعوبة في التوصل إلى إجماع حول ضرورة أي سياسة. ولنتأمل على سبيل المثال نشاز الحجج حول الإنفاق الحكومي: أهو الشيء الوحيد الذي يحاصر الكساد، أم أنه يدفعنا بثبات على الطريق إلى الهلاك؟ إن المناقشة لا تقودنا إلى اتفاق، والناخبون المعتدلون لا يعرفون ماذا ينبغي لهم أن يصدقوا، وفي النهاية تسلك خيارات السياسة العامة المسار الذي يتسم بأقل قدر من المقاومة ـ إلى أن ينتهي بها الحال إلى طريق مسدود.
إن تراكم الدين العام في البلدان الصناعية (والذي كان في ارتفاع سريع حتى قبل أن تدفعه أزمة الركود الأعظم إلى مستويات لا يمكن تحملها) يعكس هذا النوع من حسابات التفاضل. فالجماهير تكافئ الحكومات الديمقراطية عن تعاملها مع مخاطر الجانب السلبي الناتجة عن الأسواق التنافسية ـ سواء من خلال الإنفاق من أجل خلق فرص العمل أو عن طريق إنقاذ البنوك التي تحتفظ بأوراق مالية مراوغة على قوائمها المالية.
وحتى لو كانت السياسة الأمثل تتلخص في التقاعس عن العمل (أو العمل الموجه نحو الأمد الأبعد)، فهي ليست بالخيار المطروح بالنسبة للساسة المنتخبين ديمقراطيا، الذين يتوقع منهم ناخبوهم أن يحكموا، وهو ما يعني حتماً العمل في ظل احتمالات تحقيق نتائج سريعة. وتعمل الصحافة المتعاطفة على تضخيم القصص التي تدمي القلوب عن الوظائف والمنازل المفقودة، الأمر الذي يجعل هؤلاء الذين ينصحون بعدم التدخل أو يدعون إلى الإصلاحات الأبعد أمداً يبدون وكأنهم قساة القلوب. إن الأنظمة الديمقراطية رقيقة المشاعر بالضرورة، في حين لا ينطبق هذا على الأسواق؛ ولقد توسع عمل الحكومة لكي يسد الفراغ.
ومع بلوغ الحكومات في العديد من البلدان المتقدمة الآن حدود قدرتها على سد الفراغ، فإن ثلاثة احتمالات غير مرغوبة تلوح الآن في الأفق (إضافة إلى الاحتمال المرغوب الذي يتلخص في عدم وجود خيار أمام هذه الحكومات غير تبني الإصلاحات التي طالما تأجلت والقادرة على خلق النمو المستدام بأقل قدر ممكن من التدخل الحكومي). وأحد هذه الاحتمالات يتلخص في تدخل الحكومات بشكل مباشر في الأسواق، على الصعيد المحلي وعبر الحدود، في محاولة للحد من المنافسة والتقلب في حين تعيد بناء قدراتها في توفير سبل تخفيف الصدمات. والثاني يتلخص في تكميم الديمقراطية بهدف قمع الغضب الشعبي. والثالث يتمثل في البحث عن كباش فداء.
لقد جربت الحكومات الاحتمالات الثلاثة أثناء أزمة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين. ولم تكن النتائج مشجعة.
من بين العوامل التي تقلص من احتمال تدخل الحكومات مباشرة وبشكل أكبر في الأسواق أن الأزمة الأخيرة أفقدت الحكومات مصداقيتها بقدر ما أفقدت القطاع المالي مصداقيته. ولكن الأمور كانت مختلفة أثناء أزمة الكساد الأعظم. فبعد أن تسبب الانهيار الاقتصادي في فقدان عامة الناس للثقة بالقطاع الخاص والأسواق، تنامت الثقة بالحكومة. ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، كان الدعم الشعبي لصفقة الرئيس فرانكلين روزفلت الجديدة ظل واسع النطاق طيلة الثلاثينيات.
ومن بين الأسباب المحتملة وراء اختلاف المواقف اليوم أن المصرفيين عوقبوا علناً في الثلاثينيات. فقد عملت تشريعات مثل قانون جلاس ـــ ستيجال في الولايات المتحدة على تحجيم قدراتهم. كما تكبد العديد من المصرفيين خسائر مباشرة مع انهيار بنوكهم، أو مع فضح التحقيقات لهم أمام عامة الناس، أو حتى سجنهم.
أما اليوم، وعلى النقيض من ذلك، فإن قطاعات واسعة من الجماهير ترى أن البنوك الضخمة والحكومات الضخمة تُدار بواسطة نفس النُخَب التي خلقت الأزمة، ثم أنفقت الأموال العامة تحت ستار أو آخر بإنقاذ البنوك. وحتى مع عودة المصرفيين إلى جني مكافآت ضخمة، فإن دافعي الضرائب هم من تحملوا فاتورة الانهيار الاقتصادي. فهناك الآن العديد من العاملين الذين أصبحوا بلا عمل وباتوا معرضين لخطر الطرد من مساكنهم، في حين لم يزج بأي مصرفي مهم في السجن.
وتمثل أضخم البنوك الآن حصة أكبر من القطاع المالي بعد استفادتها من الإنقاذ الحكومي، في حين مورست ضغوط هائلة لمنع جهود مثل قانون دود ـــ فرانك لتشريع قيود أكثر صرامة على البنوك. ومن الواضح أن أهل النخبة، سواء في الحكومة أو الشركات الكبرى، يراعون مصالحهم فقط وليس مصالح أي طرف آخر.
وفي الولايات المتحدة، دفعت هذه المشاعر حزب الشاي، الذي يتكتل حول المعارضة لتوسع الحكومة (وحول النخبة بشكل عام)، حتى ولو كان الهدف من ذلك التوسع يتلخص في تنظيم البنوك الضخمة (ربما لأن التنظيمات الحكومية تصاغ عادة بواسطة الأقوياء بين الخاضعين لهذه التنظيمات). وعلى هذا فإن الحركات من أمثال حزب الشاي كانت تميل إلى كبح جماح هؤلاء الذين يرغبون عادة في المزيد من التدخل الحكومي، بما في ذلك تحجيم الأسواق والمنافسة، بعد اندلاع أي أزمة من ذلك النوع الذي شهدته أمريكا أخيراً.
والولايات المتحدة ليست وحدها في بين البلدان التي فقد حكوماتها مصداقيتها. ففي منطقة اليورو، وإلى جانب العلاقة المتصورة بين البنوك والحكومات، كان استعداد النخبة الحاكمة لتبني التكامل الأوروبي، وتقديم الدعم المالي عبر الحدود بتمويل من دافعي الضرائب، من دون تشاور واسع النطاق مع عامة الناس، كان سبباً في توليد مشاعر مماثلة. وفي اليابان، أسفرت المشاكل الاقتصادية المزمنة التي دامت عقدين من الزمان عن إفساد ثقة الجماهير بالساسة والبيروقراطية الحكومية.
والاحتمال الثاني غير المرغوب ـ إقدام الحكومات ذات القدرة الضئيلة في الإنفاق من أجل تهدئة غضب عامة الناس على قمع الديمقراطية وحرية التعبير ـ هو في واقع الأمر احتمال مستبعد في الوقت الحالي. ذلك أن المؤسسات الديمقراطية في البلدان الصناعية أصبحت اليوم أقوى وأعمق جذوراً مما كانت عليه في ثلاثينيات القرن العشرين.
وهذا يقودنا إلى الاحتمال الثالث غير المرغوب، والذي يتلخص في البحث عن كباش فداء غير محمية لتوجيه الغضب الجماهيري نحوها ليتبدد في النهاية من تلقاء ذاته. ومن المؤسف أن العديد من البلدان تسلك هذا المسار اليوم، حيث أصبح المهاجرون غير المسجلين والمسلمون أول الأهداف.
وقد يزعم الساسة الذين يسعون إلى تقديم كباش فداء أنهم لا يقصدون إلحاق الضرر بمن يستهدفونهم من كباش الفداء، وأنهم حريصون على مساعدة مجتمعاتهم في تجنب احتمالات أسوأ. ولكن كما أظهرت تجربة ثلاثينيات القرن العشرين، فمن الصعب أن نتخيل أي احتمال أسوأ من ذلك الذي قد يقودنا إليه هذا النمط السلوكي.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي