عفواً .. الجوال ليس سنترالا

ثورة الاتصالات والتواصل التي نعيشها اليوم والتي كانت ضربا من الخيال خلال العقدين الماضيين, وكان من المستحيل التواصل مع العالم في أي مكان من أي مكان, أصبحت واقعا نعيشه, وأصبح البحث عن المعلومة يتم من خلال ضغطة زر تستطيع أن تجد زميلاً أو صديقاً أو أستاذاً فقدته من زمن وأي معلومة تبحث عنها.
ويأتي الجوال ووسائل الاتصال الشخصي المرتبطة به والمتعاملة معه على رأس ثورة الاتصالات والتواصل، ويستخدمها العالم اليوم كبديل مباشر عن الاتصال الأرضي للإمكانات والمميزات التي وضعها صانعوه فيه بحيث يحقق كل ما يطلبه المستخدم من مميزات، والجوال أصبح جزءا من حياتنا اليومية, حتى إن البعض ممن ابتلاهم الله به لا يتحرك إلا والجوال معه, وربما يتنازل عن نقل هويته الشخصية أو محفظة نقوده أو ينساها ولا يعود لأخذها, لكن الجوال لا.
الجوال ثقافة تواصل حديث, لكنه يفقد أصول الثقافة وأسلوب الاستخدام ومواعيد الاتصال، وأوجد فوضى ثقافية بسبب سوء الاستخدام, تقترب هذه الفوضى من الفوضى الخلاقة التي تنشرها الولايات المتحدة في العالم العربي اليوم، فهناك استخدام غير حضاري للجوال وتجاوز غير مشروع للخصوصية الشخصية، سواءً بالاتصال أو المتابعة أو الرسائل أو البلوتوث أو غيرها من وسائل الاتصال المرتبطة بالجوال, أو سوء استخدامه في مواقع معينة مثل الطائرات في وقت المنع أو الرنين المزعج في وقت الصلاة أو الاجتماعات أو الاستخدام الأسوأ في الأماكن العامة مثل المطاعم، حتى إنني أذكر وفي العديد من المناسبات والأماكن العامة كيف أن أربعة أشخاص أو أكثر أو أقل يكونون في لقاء غداء أو عشاء أسري أو زملاء أو أصدقاء أو عمل وتجد كل واحد منهم من ساعة دخولهم حتى خروجهم يتحدثون في الجوال أو يمارسون استخداماته الأخرى، وفي المقابل لا يخلو اجتماع رسمي من وجود جوال أمام كل مجتمع يراقب الاتصالات ويرد على بعضها ويقرأ ما يرد فيه ويرد عليه, حتى إن أغلبية الاجتماعات لا تجد أن هناك من يتابع الاجتماع أو ما يطرح فيه من آراء وتوجهات واتخاذ قرارات.
لقد انتزع الجوال منا خصوصيتنا وراحتنا, لكن الأسوأ من كل ذلك أنه أصبح المساعد الأكبر على خلق الأزمات الشخصية بين المعارف والأصدقاء والزملاء والعاملين والمراجعين والمسؤولين والرؤساء والمرؤوسين إلى آخر القائمة التي نعيش بينها ولنا معها علاقات. الأزمات التي بدأت أو ربما أوجدها الجوال, هي اعتقاد البعض أنه يستطيع أن يتصل بك على جوالك الشخصي في أي وقت وخلال الـ 24 ساعة والأيام السبعة دون تقدير لوقت الصلاة والراحة والنوم والعمل, حتى بيت الراحة لم يرتح من مطاردة الجوال له وللوقت المخصص له، تجد من يحاول الاتصال بك بعد منتصف الليل وهو يعرف أنك من الناس الذين ينامون مبكرا, أو هناك من يتصل وقت العمل والجميع ـــ مع الأسف ــ يعتقد أن الجوال يعمل كسنترال لصاحبه ويتوقع الرد, ولا يعلم أغلبية المتصلين أن بعض أجهزة الجوال لا تظهر إلا آخر 20 اتصالا الأخيرة حسب نوع الجوال، وبناءً عليه لا يمكن معرفة كل من يتصل، وهذا ربما لا يعرفه أكثر من يستعمل هذا الجهاز المعجزة ذو النعم الكثيرة والمشكلات الأكثر.
إن اعتقاد البعض أن الجوال يقوم بعمل المساعد أو السنترال اعتقاد خاطئ, ويجب بناءً على ذلك تعديل أو إصلاح ثقافتنا نحو استعمال الجوال وعدم الاعتماد أو الاعتقاد أنه بمجرد الاتصال على الجوال فإن الطرف الآخر ملزم بالرد في أي وقت وبأي طريقة, ويجب في الوقت ذاته عدم الاعتقاد بأن عدم الرد هو عدم الاهتمام أو عدم المبالاة بالمتصل, وفي الطرف الآخر يجب على المتصل أن يختار الوقت المناسب للاتصال.
المتغيرات العالمية وتطور أسلوب وشكل الاتصالات وتحول العالم إلى مجموعة صغيرة من الحلقات المترابطة بين مختلف وسائل الاتصال وانعدام الخصوصية الشخصية والضغط على الراحة النفسية الشخصية واستغلال الآخرين وقت الإنسان وأسرته وخصوصيته، إلى آخر القائمة التي أصبحت الأغلبية تشتكي منها, فإن الأمر يتطلب وجود ثقافة وأنظمة جديدة لاستخدام وسائل التواصل وفي مقدمتها استخدام الجوال وما يرتبط به من وسائل اتصال وتواصل.
من جانب آخر, تمثل الرسائل التجارية أو ذات الطابع التجاري أو الدعائي أو غيرها من الرسائل اختراقا للخصوصية التي أصبحت نموذجا من الإزعاج والابتزاز للمال والوقت والجهد، إضافة إلى سوء استخدام الجوال وأدواته في اختراق الخصوصية والتجاوز الشرعي للحقوق من تصوير أو مغازلة أو غيرها من السلوكيات المحرمة دينياً وأخلاقياً وسلوكياً واجتماعيا.
إن وضع نظام صارم ذي بعد جزائي، ودعم تعزيز ثقافة استخدام وسائل الاتصال ومنها الجوال، والتأكيد على أن مثل هذه الوسائل تحتاج إلى وجود أنظمة وقوانين وضوابط وجزاءات لاستخدامها وسوء استخدامها، والتأكيد على أهمية التوعية بتلك الثقافة والأنظمة، تضمن حسن استخدام التقنية في مجتمعنا, وألا تصبح هذه النعمة الربانية نقمة على أسرنا وحياتنا ومجتمعنا ونتجاوز بها وفيها كل الأعراف الدولية والعربية الحامية للخصوصية والمؤثرة بشكل سلبي في حسن استخدامها والله الموفق.

وقفة التأمل:
الدنيا بخير دامها جادت بمثل شرواك
ومن عاشرك ينسى الهم والنكاده
الطيب ساسك ولا عاش من عاداك
أنت الوفا وأنت الغلا والصدق مبداك
واللي يخاويك والله ما ينحني راسه
تسلم يمين اللي على الأخلاق رباك

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي