الزواج والأسرة .. النظرة إلى الآخر
قلنا إن الزواج هو الشروع في تكوين مؤسسة، وذكرنا أن الأسرة بناء وكيان يقوم على أسس، وأن هذه المؤسسة لا تنهض ولا تقوم بعملها من غير هيكلة تنظم أمورها وترشد العلاقات في داخلها، وأن الأسرة كبناء وكيان اجتماعي لا يستطيع أن يمتد إلى الأعلى من غير أن يستند هذا البناء وهذا العلو إلى أسس متينة، فثبات القمة من متانة القاعدة. الزواج من أهم الطرق التي تأخذ بالإنسان إلى السعادة الدنيوية ولها دور كبير في تحديد مصيره في الآخرة، لكن لا ينكشف هذا الطريق للإنسان بسهولة؛ لأن بدايته مغمورة في أعماق نفسه ومحشورة تحت طبقات عميقة من اللاوعي في داخل ذاته. فمن يرد أن يمسك ببداية هذا الطريق فعليه أن يحفر في ذاته، وليس هناك أداة للحفر في الذات أصلب وأقوى من الفكر والتفكير؛ ولهذا كان التفكر في عظمة الله أرقى مراتب العبادة، ولهذا صار العلماء هم أكثر الناس خشية من الله، (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء)، سورة فاطر - الآية: 28.
علاقة الزوج بزوجته وعلاقة الزوجة بزوجها تتحدد بناءً على ما في داخل الذات من رؤية ونظرة لكل واحد منهما إلى الآخر، فلا نستطيع أن نطلب من الرجل أن تكون له علاقة سليمة، وعلى أسس إنسانية مع زوجته، وهو ينطوي في ذاته على رؤية تنتقص من إنسانية المرأة، فعندما يتشكل اللاوعي عند الرجل أن المرأة أقل رتبة في الإنسانية من الرجل؛ فإن الوعي لا يستطيع إلا أن يستجيب لحكم اللاوعي وعندها يصير عندنا الرجل هو السيد والمرأة هي الخادمة. القبول بفكرة أن المرأة أقل درجة في الخلق وأقل رتبة في الإنسانية يفتح الباب على مصراعيه للثقافة الذكورية، خصوصا عندما تغلف هذه الثقافة بلباس الدين، وبهذا اللباس تصعد الكثير من مفردات هذه الثقافة الذكورية إلى رتبة القداسة، وعندها لا نجد الرجل وحده هو من يتمسك بهذه الثقافة، بل نجد المرأة في الكثير من الأحيان أشد تمسكا بهذه الثقافة من الرجل. فيصبح تكريس المرأة دونيتها أمام الرجل مسألة مفهومة وواضحة؛ لأن المقدس يفترض به أن يبقى بعيدا عن التشكيك والمساءلة، ومن الصعب على الإنسان العادي أن يقترب من المقدس، ولهذا تكون المحافظة على المقدسات من أن يدخل فيها غير المقدس مسألة مهمة جدا لأي مجتمع يريد أن يكون عنده القدر المطلوب من الإرادة لممارسة وجوده وتأكيد حضوره أمام المجتمعات الأخرى.
كيف نطلب من الرجل أن يتعامل بإنسانية مع المرأة؟ وهل بمقدوره فعلا أن يفعل ذلك بشكل طبيعي وعفوي وهناك طبقات من اللاوعي في داخله تقول له إن المرأة خلقت كجزء منه ولخدمته؟ فهو الكل وهي الجزء، فهو إنسان كامل الإنسانية وهي ليس عندها إلا جزء بسيط من الإنسانية، وبما أنها عندها هذا القدر المنقوص من الإنسانية فهي سريعة الوقوع في شباك الشيطان، وبالتالي صارت النساء جنودا للشيطان وأنها خلقت من أجل الإيقاع بالرجل ومحاربته ومناكفته وتزيين الفتنة له للوقوع في النار التي أكثر سكانها من النساء. المرأة مخلوق فتنة ومشروع إغواء ابتدأت مهمتها بأبينا آدم وستستمر هذه المهمة حتى آخر رجل على هذه الأرض قبل يوم القيامة، وكل هذه الفتنة التي عندها جاءت لأن أصلها الإنساني غير نقي، وأنها مخلوق عنده منطقة فراغ إنساني كبير وقد استعمر الشيطان هذه المنطقة هو وجنوده، فهي مخلوق لكنه محتل ومستعمر من قبل الشيطان وجيوشه. ولما كانت الضرورة تقتضي أن يعيش الرجل وهو الإنسان الكامل مع المرأة وهي الإنسان الناقص والمحتل من قبل الشيطان فإنه لا بد أن يكون الرجل شديد الحذر منها وشديد المراقبة عليها؛ لئلا تجلب البلاء عليه وعلى أسرته. فلما كانت المرأة معبرا سهلا للشيطان لقلة فطنتها وشدة تعلقها بممارسة الإغواء وجلب الفتن فإنه من الضروري أن تبقى جاهلة وحبيسة الدار، فالعلم قوة والعلم يعطي الإنسان قدرا أكبر من رؤية عدد أكبر من الخيارات المتاحة لتحقيق ما يريد الوصول إليه، وبالتالي فالعلم للمرأة يجعلها أكثر فسادا وإفسادا لغيرها، فيكفي للمرأة من العلم ما ينفعها لتجويد طعام الرجل والقيام بخدمته وغير ذلك فيه إشكال ويجب التوقف عنده كثيرا والاحتياط منه أكثر وأكثر. وما دامت المرأة مخلوقا ناقص الإنسانية وناقص العقل فيجب على الرجل ألا يشاورها في أموره، وإذا لم يجد من يستشيره فلا بأس من أن يستشير المرأة بشرط أن يخالف ما تنصح به وتقترح عليه. وعلى الرجل أن يقوم برعاية المرأة والنفقة عليها ما دامت هي صالحة لخدمته وتلبية رغباته الجسدية، وعندما يتعطل هذا الدور لظروف معينة أو بسبب المرض فلا مسؤولية على الرجل في النفقة عليها، هكذا وبكل بساطة تفقد المرأة حقوقها وكرامتها عند الرجل لمجرد أن يكون هناك عجز في أداء دورها. نعم قد لا تصل علاقة الكثير من الرجال بالمرأة إلى هذه الدرجة من الدنو واللاإنسانية، لكن ما دامت هناك فكرة دنو المرأة ونقصان مرتبتها في الخلق والإنسانية في أعماق اللاوعي عند الرجل فإن العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة تبقى مضطربة وغير مستقرة وتخضع عندها للمزاج وتقلبات العادات والتقاليد ويكون الرجل متفضلا على المرأة عندما يتعامل معها بشكل إنساني وكريم.
لعل الفكرة الأم واللبنة الفكرية الأساسية التي بنيت عليها كل طبقات اللاوعي المضادة لإنسانية المرأة هي فكرة أن أول الخلق كان آدم، وآدم كان رجلا ومن ثم خلقت المرأة، وهي حواء، التي لم يذكر حتى اسمها في القرآن، ولقد كان أول ابتلاء لآدم الرجل بسبب طاعته هذه المرأة التي هي حواء، والتي كان نتيجتها الخروج من الجنة وخسران ما فيها من نعيم. فهذه القراءة غير الصحيحة لقصة خلق الإنسان هي التي جعلتنا ننتقص من إنسانية المرأة، وبالتالي كان ما كان من امتهان للمرأة وهضم حقوقها والتعدي على موقعها في الحياة. هذه القراءة توحي بأن الذكر كان له الأسبقية في الخلق، وهذه الأسبقية تعطيه مرتبة إنسانية أعلى ممن لحق به أو جاء بعده وهي المرأة، والله - سبحانه وتعالى - يؤكد في كتابه الكريم أن كل شيء في هذا الوجود بما فيه الإنسان قد خلق زوجا، وبالتالي فآدم المذكور في القرآن هو اسم لهذا الزوج، فآدم هو الإنسان وزوجه، (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) الذاريات - الآية: 49، وليس آدم الذكر فقط، بل الزوج من أمر الله الملائكة بالسجود له، وليس آدم الذكر فقط، بل الزوج من علمه الله الأسماء، وآدم الزوج هو الذي دخل الجنة؛ لأن هذا الزوج الإنساني الذي نفخ فيه من روحه وقال عند خلقه، (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ)، سورة المؤمنون - الآية: 13، هو مخلوق فعلا يستحق الجنة، لكن كان ينتظره مكان آخر، وهي هذه الأرض ليعمرها وليكون فيها خليفة الله، وكان هذا الانتقال والهبوط إلى هذه الأرض في حاجة إلى لحظة تتحقق فيها إنسانية الإنسان، وتم هذا الأمر عندما تحركت إرادة الإنسان وباشر إنسانيته وأقدم على أكل التفاحة، ولتبدأ عندها مسيرة العودة إلى الجنة، لكن هذه المرة باختياره ومن خلال أعماله الصالحة. قصة خلق الإنسان الأول وهو آدم قصة الزوج الإنساني، وبالتالي فليس هناك خلق لآدم الذكر ومن بعد خلق حواء الأنثى، فالرجل والمرأة كلاهما خلقا في وقت واحد ولهما المرتبة الإنسانية نفسها، وكل ما بني على أساس أن المرأة أقل إنسانية من الرجل فهو باطل.
فلنا أن نتخيل شكل الأسرة وشكل العلاقة بين الزوج والزوجة عندما لا تكون هناك هذه الثقافة التي تفرق بين الاثنين في رتبتهما الإنسانية، فهذه الثقافة عندما تكون حاضرة في طبقات اللاوعي فإن كلا من نظرة الرجل إلى المرأة ونظرة المرأة إلى الرجل لا بد من أن يكون فيها ظلم، ظلم من الرجل على المرأة ويكون على درجات مختلفة وربما يكون هناك أيضا ظلم من المرأة لنفسها، فالمرأة التي لا تنظر لنفسها على أنها مخلوق كامل الإنسانية وأنها عندها الاستعداد الطبيعي لأن يكون لها حقوق الرجل نفسها، فكيف لها أن تطالب بحقوقها أو أن تشعر بمظلوميتها؟ بناء الأسرة على أسس صحيحة يتطلب أولا رؤية صحيحة وسليمة للشريك والطرف الآخر في الزواج، وأول خطوة في تصحيح هذه الرؤية المهمة لكيان الأسرة هي إعادة الإطار الكامل الإنسانية في النظرة إلى المرأة، وانطلاقا من هذه الإعادة سيكون بالإمكان تصحيح كل هذا الموروث الثقافي الذي يحط من القيمة الإنسانية للمرأة ليس في الأسرة وفي إيجاد علاقة متكافئة مع زوجها فقط، إنما في المجتمع أيضا.