تحذيرات البنك الدولي من تأثير المضاربة في أسعار السلع الغذائية في الدول المتقدمة
لم يكن ما حدث في العالم العربي من تغيرات جذرية بعيدا عن محيطه العالمي، وخصوصا ما يتعلق منها بالشق الاقتصادي، فسخونة ما حصل في العالم العربي، إضافة إلى كثير من القضايا الساخنة والمتنوعة فرضت نفسها وبقوة على مناقشات وزراء مالية ورؤساء البنوك المركزية في اجتماعات الربيع السنوية للبنك وصندوق النقد الدوليين يضاف إلى ذلك كله الأزمات الاقتصادية التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط والعالم، ولم يكن تأثير التسونامي الياباني بعيدا عن جلسات الربيع لوزراء المالية ورؤساء البنوك الذي بدا وكأنه خريف بكل المعايير، إضافة إلى أزمات الديون السيادية الأوروبية، وانعكاس الاختلالات بين أداء الدول المتقدمة والصاعدة على النمو العالمي، فقد نشرت الصحافة أخيرا تقريرا مطولا يتناول اجتماع الربيع السنوية للبنك وصندوق النقد الدوليين.
والأمر الذي يسترعي الانتباه بشكل كبير بحسب ما ذكرت الصحف هو تغير لغة الخطاب في اجتماع الربيع السنوي إذ لم يتردد شتراوس الذي كان مدير الصندوق في توجيه توبيخ علني للولايات المتحدة على عجزها المالي، ووقف روبرت زوليك رئيس البنك الدولي محذرا من تأثير المضاربة في أسعار السلع الغذائية في الدول المتقدمة واشتعال أزمات الجوع في الدول الفقيرة.
ولعل المؤسستين العريقتين كانتا تبحثان عن دور لهما في اقتصاد عالمي أصبح فيه للدول الصاعدة صوت أكثر قوة وصلابة لكن نتائج الاجتماعات وضعت الكثير من علامات الاستفهام حول هذا الدور.
زوليك وشتراوس كان اعترفا بأن تركيز المؤسستين على مؤشرات أداء الاقتصاد الكلي على حساب تحقيق العدالة الاجتماعية وتوفير فرص العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وفر غطاء لنظم استبدادية وتسبب في غليان داخلي فجر نفسه في ثورات مشتركة في ملامحها ونتائجها. وتعهد رئيس البنك الدولي بأن يكون برنامج المعونة المقترح لتونس والبالغ 500 مليون دولار نموذجا يحتذى به في برامج الدعم الأخرى لدول المنطقة، وقال داعيا البنوك العالمية إلى دعم الإصلاح في الشرق الأوسط دون انتظار استقرار الأوضاع ''فى اللحظات الثورية لا يكون الإبقاء على الأوضاع الراهنة خيارا جيدا والحقبة الثورية تحتاج إلى دعم مختلف من دولة إلى أخرى''.
ملامح التغيير بدت في قوله إن برامج الدعم القادمة ستركز على تحقيق نمو يستفيد منه كل طبقات المجتمع، وتعديل الطريقة التي تتعاقد بها الحكومات على المشروعات العامة بما يحقق الشفافية والخضوع للمحاسبة، وإتاحة أعلى درجات الحرية في حصول المواطن على كل ما يطمح إليه من معلومات بشأن الإنفاق العام وأوجه صرفه بما يحقق العدالة الاجتماعية.
لكن على الرغم من اعتراف زوليك وشتراوس كان بأن توفير فرص العمل هي المهمة الأولى إلا أنهما لم يطرحا طرقا بديلة لتحقيق هذا الهدف، وكان مثيرا أن تقرير التنمية الدولية الذي طرح للنقاش خلال الاجتماعات تضمن توصية بتركيز برامج المعونة المقدمة على تطوير استقرار الحكومات وتعزيز المؤسسات الحكومية على حساب التعليم والصحة. المؤسستان في نهاية الأمر سيكون دورهما الأساسي تقديم خبراتهما لوضع استراتيجية استثمارية للنمو الإقليمي تشارك في تمويله مؤسسات مالية دولية أخرى مثل البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير وغيره من البنوك ورجال الأعمال الذين يتأهبون للاستفادة من أجواء الشفافية في المنطقة وتعهدوا بتقديم أربعة مليارات دولار لمصر وتونس خلال العام المقبل.
ويبدو دور البنك الدولي محدودا أيضا في التعامل مع قضية ارتفاع أسعار السلع الغذائية. صحيح أن زوليك كان حاضرا بالإحصاءات المثيرة عن الفقراء الذين يزيدون 68 شخصا كل دقيقة، وارتفاع أسعار السلع الغذائية بنسبة 36 في المائة عن العام الماضي بسبب المضاربة وارتفاع أسعار الوقود ومعدلات التضخم والكوارث الطبيعية وانتقائه لغة محببة إلى الدول الصاعدة، وهو يتحدث عن أخطار الأمن الغذائي مع سقوط عشرة ملايين شخص إلى ما تحت خط الفقر، وإضافة 34 مليون شخص إلى نحو 44 مليونا يعانون تبعات الفقر، ولكن باستثناء دعوته مجموعة العشرين للقيام بدور قيادي لوضع حلول لتقلب أسعار المواد الغذائية وصياغة خطة للتعاون بين المنظمات المانحة لمساعدات الدول الفقيرة فليس تحت يده أدوات تمكنه من وقف المضاربة على الأسعار التي ستظل رهنا بما تتخذه كل دولة منفردة من إجراءات مثل فرض ضرائب أو قيود قانونية على المضاربة.
وبعيدا عن الثورات العربية وأزمة الأمن الغذائي فقد كانت القضية المحورية المطروحة للنقاش هي الأخطار المستمرة التي تواجه الانتعاش العالمي رغم بلوغه نسبة 4.4 في المائة وتحذير شتراوس كان من الركون إلى الرضا والاطمئنان لاعتقاده أن النمو لا يزال هشا بسبب التباين بين النمو بوتيرة متباطئة في الدول المتقدمة وبوتيرة متسرعة تزيد الضغوط التضخمية في الدول النامية. هنا تحول النقاش الهادئ إلى جدل ساخن.
وللمرة الأولى تلقى تيموثي جايثنر وزير الخزانة الأمريكي توبيخا رسميا من صندوق النقد الدولي لعدم انتهاج الولايات المتحدة السياسات الواجبة لخفض الدين العام الأمريكي الذي قفز إلى 14 تريليون دولار وارتفاع نسبة عجز الميزانية إلى 10.8 في المائة، وهي نسبة تجعلها على مستوى العجز المالي الإيرلندي ذاته الذي يعد من أعلى المستويات بين الدول المتقدمة.
ثم استمع بهدوء إلى جويدو مانتيجا وزير مالية البرازيل الذي انتقد تخاذل الدول المسؤولة عن أكبر أزمة مالية عالمية منذ الركود العظيم عن حل مشكلاتها في الوقت الذي تحاول فيه فرض ميثاق سلوك على الآخرين.
لكن جايثنر رد بوضوح أيضا قائلا: إن بلاده ملتزمة بإصلاح مالي وخفض للعجز المالي لا يعوق الانتعاش الوليد وانتقد بدوره الصين التي لا تقوم بما يلزم لجعل سعر عملتها أكثر مرونة.
وجاء الرد الصيني حادا على لسان ''يى جانج'' نائب محافظ البنك المركزي الصيني الذي طالب صندوق النقد الدولي بمحاسبة ومراقبة أداء الدول الغنية كما تفعل مع الدول الصاعدة، وعلى لسان أليكسي كودين وزير المالية الروسية الذي انتقد قيام البنوك المركزية بشراء ديون حكومية بهدف الإبقاء على معدلات متدنية لسعر الفائدة مما يشكل انتهاكا صريحا لقواعد الاستقامة المالية.
وفي سياق متصل، فإن بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يعتزم شراء نحو 600 مليار من الديون الحكومية بحلول حزيران (يونيو) المقبل مما يرفع مستوى شرائه للقروض العقارية والحكومية إلى نحو 2.3 تريليون دولار منذ كانون الأول (ديسمبر) 2008.
الوجه الآخر لتباطؤ النمو في الدول المتقدمة وتدني مستويات الفائدة وعجز الموازنة وأزمة الديون السيادية لدول الطرف الجنوبي من الاتحاد الأوروبي هو تدفق رؤوس الأموال الساخنة على الدول الصاعدة بما تشكله من ضغوط تضخمية وارتفاع في أسعار الفائدة تزيد من تكلفة استثماراتها. وهي مشكلة تعانيها دول مثل البرازيل والهند وكوريا الجنوبية وإندونيسيا، هذه القضية فرضت تحولا نوعيا على صندوق النقد الدولي الذي تبنى حق هذه الدول في فرض قيود على التدفقات الرأسمالية الساخنة وهو تغيير في القاموس اللغوي للصندوق يعكس النفوذ الذي تمارسه الدول الصاعدة على سياساته مع زيادة قوتها التصويتية في تقرير سياساته. لكن الصندوق ظل حذرا رابطا هذه القيود باتخاذ هذه الدول السياسات الواجبة لتقوية نظامها المصرفي وإضفاء المرونة على أسعار عملاتها (بمعنى رفع سعر العملات) وهو ما رفضته الدول الصاعدة باعتباره تدخلا وإملاء غير مبرر للشروط.
في إطار هذا الجدل المحتدم والخلافات العميقة التي لم يتمكن شتراوس كان أو زوليك في ردم الهوة بين طرفين متصارعين يمكن الحكم على الفعالية المحدودة لأكبر إنجاز تحقق في الاجتماعات وهو اتفاق مجموعة العشرين التي تضم الدول المتقدمة والصاعدة على معايير الاختبار التي ستحدد الدول التي تتبع سياسات تعرض الاقتصاد العالمي لخطر هيكلي إذا ما تركت دون مراقبة وتوفير آلية لتطبيق سلسلة من الإجراءات الاقتصادية والمالية لتحقيق نوع من التوازن الاقتصادي العالمي يقي اقتصادات كثير من الدول بلوغ مرحلة الأزمة. نوجه النظر هنا إلى أن الأمر يتعلق فقط بالاتفاق على المعايير التي سيسترشد بها صندوق النقد الدولي لتحديد ما إذا كانت دولة ما تستحق المراقبة على اختلالاتها المالية ولا توجد آلية إجبارية تفرض على دولة ما خضوعها لهذا الاختبار. أما الأسئلة الصعبة المتعلقة بآلية السياسات الواجب اتباعها فقد تم إرجاء النقاش حولها إلى اجتماع مجموعة العشرين فى مدينة كان الفرنسية فى تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل.
اجتماعات الربيع للبنك وصندوق النقد الدولي بحسب التقرير الذي نشرته صحيفة ''الأهرام'' المصرية كانت مثيرة للغاية لما جرى فيها من مناقشات جادة ولما أفرزته من لغة مختلفة في التعامل الصريح مع القضايا والمشكلات، وهي إن كانت قد منحت المؤسستين العريقتين فرصة أخرى للبقاء بتكليفهما بمهام جديدة لضمان الاستقرار الاقتصادي في الشرق الأوسط وتقييم الاختلالات التي ما زالت تعوق توازن النمو العالمي إلا أن هذا لا يعني أن القرار الاقتصادي العالمي في قبضتهما بل تحدده توازنات القوى خارجهما.
فقد أسهم الفساد الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط في تحويل المنافع العامة إلى منافع خاصة، وبصوره المتنوعة من عمولات إلى رشا وتهرب ضريبي وتهريب أموال وتهرب من الجمارك ونشر أسرار العقود إلى غيرها من عشرات المفردات، وقد يمتد الفساد عمودياً إلى أعلى مفصل في الدولة وأفقياً ليشمل عموم قطاعات النشاط الاقتصادي، ونشرات صندوق النقد الدولي الدورية كشفت مئات من الصفقات الوهمية، والحسابات السرية لمعظم دول العالم الثالث، وبذلك يكون الفساد الاقتصادي وهدر المال العام تدميرا لكل أهداف الدول المعنية، والصفقات الفاسدة تزيد من إنفاق الدولة العام بلا عوائد، يقابلها تقلص في الجباية الضريبية للسبب نفسه مما يزيد من أزمة الدولة المالية للسيطرة على الكتلة النقدية وحسن استخدامها، والتهرب الجمركي يفسد السياسة السعرية للدولة لتسقط عملية المنافسة في مستنقع البضائع المهربة الخارجة والداخلة.
وتشكل عملية الانتقال إلى اقتصاد السوق وتدفق الأموال لتنفيذ آلية الاقتصاد الجديد هي بقعة الفساد الملائمة، وحين تقدم الدولة أي دولة لتحويل المؤسسات الحكومية إلى القطاع الخاص تكون تربة الفساد مهيأة مما شكل تربة خصبة أسهمت في تنامي الشعور لدى الجماهير بهذا الفرق، الأمر الذي استدعى زلزال التغيير الذي طال بعض الدول، وهذا ما جعل التقرير الأخير لاجتماعات الربيع السنوية للبنك وصندوق النقد الدوليين يكتسب أهمية تتعلق بتغير صورة المشهد السياسي في المنطقة.