صناعة الإعلام العربي.. التغطية المباشرة وبناء المستقبل
شق الباحث ميشال دو سرتو Michel dec Certeau، في كتابه المعنون ''فنون الأداء، اختراع اليومي'' سنة 1980، الطريق لحل الإشكالية المتعلقة بالاستخدامات المباشرة للوسائل السمعية والبصرية وتلقيها. وصادقت أفكار سرتو على فكرة مفادها أن السلطة غير موجودة في عمليات الوسيط الإعلامي، أو أنها في طريقها إلى التلاشي.
ولعل الراهن الإعلامي العربي بما يضخ يوميا على المشاهد العربي يجعل من الضروري إعادة التفكير بالكيفية ومشهد البث والتغطية التي آل إليها واقع الإعلام العربي في شكلية التعاطي مع أحداث الراهن، وهي كيفية لم تتغير كثيرا عن الشكل الذي بدأت به التغطية الإعلامية قبل نحو عقدين من الزمن مع أن الشارع العربي تغير اليوم كثيرا.
والكتابة هنا لا تتوصل التوصيف، بقدر ما تحاول التفسير والبدايات والتحولات، ففي عام 1980 انعقد مؤتمر دولي لـ ''اليونسكو'' في براغ للبحث في واقع الإعلام وصدر عنه تقرير حمل عنوان: ''أصوات كثيرة في عالم واحد'' ترجم هذا التقرير إلى جميع لغات العالم، وجنبا إلى جنب صدر عن ''اليونسكو'' قرار يؤكد دعهما لاستحداث نظام جديد للإعلام والاتصالات. يومها عبرت رئيسة وزراء الهند عن الحاجة إلى إعلام مفتوح خال من هيمنة تدفق الأنباء عبر وكالات الأسوشيتد برس والإنترناشونال ووكالة الصحافة الفرنسية ورويترز، التي كانت تتمتع بممارسة التحكم الاحتكاري في تدفق الأنباء على البلدان النامية، ومما قالت أنديرا غاندي: ''نريد أن نسمع الأفارقة وهم يتحدثون عن الأحداث الجارية في إفريقيا، ولا بد أن تكونوا بالمثل قادرين على سماع تفسير هندي للأحداث الجارية في الهند، من المدهش أننا لا نعرف إلا القليل جدا عن كبار الشعراء والروائيين والمؤرخين والكتاب المنتمين إلى بلدان آسيوية وإفريقية وأمريكية لاتينية ...في حين أننا نسمع عن أسماء ثانوية كثيرة في كل من أمريكا وأوروبا''.
شق الجدل طريقه لتحرير الإعلام من هيمنة الدولة نهاية الثمانينيات، ويلاحظ أن الدولة بسبب الأهمية الطاغية للإعلام تفرض قدرا معينا من الضبط في المجتمعات كلها، وجاءت نهاية عقد الثمانينيات بمقولة ''تغطية العالم'' حسب رأي لويس فريدلاند Lewis.Friedland ففي تلك السنوات شهد العالم حدثين ضخمين جعلت فضائية مثل CNN في مستوى العالمية، آنذاك نجحت CNN في توسيع دائرة الأخبار العالمية، ولم تعد تكتفي بالحديث عن الأحداث بقدر ما أخذت تعمل على قولبة الأحداث وتشكيل جزء منها. ومثل هذه القولبة لم تقف عن حدود اجتذاب مشاهدين جدد، بل أجبرت شبكات أخرى على إعادة النظر بمقاربتها للأخبار من حيث الجوهر، وحفزت كلا من ''البي بي سي/BBC والإن إتش كي/NHK وغيرهما على إطلاق شبكاتها التلفزيونية الخاصة.
كان الحدث الأول هو مذبحة ساحة تيانامين (مع صعود الحركة المؤيدة للديمقراطية في الصين 1989)، في ذلك الحدث تابع كل بلد أوروبي وآسيوي وإفريقي الـ CNN، وبالفعل شكل ربيع مذبحة ساحة تيانامين منعطفا في مسيرة تطور نظام الأخبار العالمي، كانت الرسالة التي قدمتها CNN هي الأهم من قبل التلفزيون الفضائي العالمي، وجاء التأثير على ثلاثة مستويات: داخل الحدود القومية، وعبر المنظومة الدبلوماسية العالمية، وعلى صعيد الرأي العالمي.
وإذا كانت تلك التغطية منحت CNN قوة شرعية، فإن الحدث الثاني وهو حرب الخليج الثانية، بعد تيانامين وضع المحطة ذاتها في مقدمة وسائل الإعلام وزادت من الضغط عل لاعبين آخرين لدفعهم للدخول في منافسة إخبارية، وكان على الدول المتمسكة بعناصرها الرقابية، ألا تجد مناصا من استقاء معلوماتها وساعات بث لها من قناة تديرها شركة خاصة.
سلطت حرب الخليج الثانية الضوء على نقاط قوة التلفزة الدولية، باعتبارها أداة دبلوماسية، وبوصفها شاهد عيان على الأحداث، كما أظهرت مدى قدرة التلفزيون العالمي على الالتواء اتباعا لخطوط مفضلة لدى الدول الغربية التي تعد ركيزة النظام الدولي، آنذاك ومع اقتراب الأزمة من خط الحرب ما لبثت CNN أن أصبحت خطا غير رسمي للاتصال داخل حكومة الولايات المتحدة ويقال إن الرئيس بوش أبلغ قادته أنه يتعلم من CNN أكثر مما يتعلم من CIA وبعد إطلاق الحرب الجوية كان وزير الدفاع ريتشارد تشيني يصرح: ''كان أفضل تقرير رأيته عما حدث في بغداد هو ما رأيته على شاشة CNN'' وكما هو معلوم كانت قناة CNN الوحيدة التي تستطيع البث ليلة 24 كانون الثاني (يناير) 1991 حين شنت القوات الأمريكية هجماتها.
تركت تلك الأحداث آثارها على الحالة العربية، بدخول الإعلام العربي حقبة جديدة في ظل تغيرات دولية ميزتها الهيمنة الخارجية أحادية القطب، وارتفاع وتيرة الغزو الخارجي، وانحسار الصوت الإعلامي غير الرسمي، وبداية تحرك جديد لتفكيك القضية المركزية للأمة العربية. تلك الحالة السياسية القاتمة التي تلت أزمة الخليج، كانت تمثل التحدي الأبرز للمشهد الإعلامي الناشئ بمعزل عن هيمنة الدولة، ففي بداية التسعينيات سجلت شركات عربية تأسيس قنوات فضائية كانت أولهاMBC تلتها قنوات أخرى متخصصة وعامة، وكانت ''الجزيرة'' أبرزها، ثم جاءت ''العربية''، ولم يعد بإمكان الدولة العربية أن تضبط خيارات الانتقال لمشاهديها؛ إذ أصبحت عمليات تدفق البرامج التلفزيونية مسألة أساسية في النظام الثقافي العالمي، وليس لأحد عليها سلطة.
أثبتت سيرة الإعلام المعاصر صعوبة تجاهل دور تأثير رأس المال في الإعلام والصحافة، فقد كان رأس المال المغامر في سوق التلفزة وليس الدولة، ومع التوسع المطرد للإنتاج وأنماط التعاقد وتبادل البرامج تتراجع حراسة الدولة لبواباتها أمام سيل من التدفق الإعلامي.
وفي وقت تؤكد فيه التقاليد الإعلامية أن ''الإعلام المستقل يجب أن يبتعد كليا عن رأس المال''. يسأل صحافي في ''اللومند دبلوماتيك'': ما الذي يتعين علينا نحن الصحافيين والمثقفين أن نفعله في عالم ستنقلب فيه الفروق بين الدول الصناعية ونظيراتها النامية من فروق عادلة إلى فروق لا إنسانية إذا بقيت التوجهات الراهنة على حالتها؟ أما زلنا نستطيع كصحافيين وإعلاميين أن ندين الوضع ونقترح حلولا وعلاجات حين يكون هذا العدد الكبير من أصحاب المليارات أمثال بيل جيتس وروبرت مردوخ وتيد تورنر وغيرهم من أرباب المال في العالم، مالكي الصحف التي نكتب فيها ولمحطات الإذاعة التي نتحدث عبرها وشبكات التلفزة التي نظهر على شاشاتها؟
وكما أن للدولة رقابتها وحراستها، فإن لرأس المال رقابته التجارية على محتوى المادة التي يقدمها، ورغم قوة رأس المال وهيمنته إلا أنها تظل أخف وطأة من رقابة السلطة التي تتحكم في المحتوى وفي حرية الكلمة، فالدولة ظلت المالك الوحيد المهيمن على مصادر المعلومات، وهي ترى في الاستثمار في الإعلام مشاركة لها في مقدساتها.
أمام هذا الواقع لم تجد الدولة العربية بدا من التعامل مع الإعلام المستقل، وفي الحالات التي لم تستطع فيها التأثير في سيل المعلومات المتدفق، نجدها إما أن تعوق تقدم بعض الوسائل الإعلامية بغلق مكاتبها، أو حجبها إذا كانت مواقع إنترنت، وفي بعض الحالات أفقدت الدولة العربية مصداقية وسائل الإعلام التي نحجت - الدولة - في اختراقها وأقامت معها علاقات تبادلية، وهكذا أضحت بعض وسائل الإعلام وسيلة في يد السلطة التنفيذية تستخدمها للنيل من صدقية معارضيها.
إن تجاوز رأس المال لـ ''التحدي السياسي'' في صناعة الإعلام، يظل الأهم، وهذا التجاوز لا يعني أن ينقلب على شرعية الدولة، أو يتخلى رأس المال عن مسؤولياته في العمل على وجوب استنارة عقل المشاهد وقيم المهنة والموضوعية، وتنمية الإنسان وإشاعة المعرفة وصنع الثقافة القادرة على المواجهة.
وعلى رأس المال السعي إلى إقامة شبكة من العلاقات والمنافع على المستويات كافة، تعنى بالمصالح المشتركة، وتوفر مُناخا من القناعات المشتركة بأهمية وجود إعلام عربي يخدم المعلومة، ويعنى بالحقيقة، ويستنهض التاريخ، ويمحص الواقع، ويستشرف المستقبل، وقراءة واقعنا والفضاء العالمي من خلال ''عيون عربية'' متيقظة ومبصرة.
إن هيمنة قوى دولية على سوق الوكالات في العالم، وما تتمتع به تلك القوى التي تحظى بإسناد جدي من قبل الجهات التي توفر لها مظلة الحماية السياسية، إلى جانب الامتداد الزمني الطويل، أتاح لها ابتكار صيغ وقوالب مهنية أرغمت من يعتزم دخول هذا الميدان في مستوياته المتاحة، على الاستعارة والاقتباس، ولعل ذلك التحدي المهني هو الذي يفرض على الاستثمار في قطاع الإعلام أن يخلق بدائله وأن يسعى إلى خلق شبكات مزودة للمعلومة والإسهام في قطاعات إنتاجية مختلفة. إن ثمة اعتقادا واسعا بأن دخول رأس المال الرسمي مجال الإعلام في الوطن العربي كان له تأثير ضارّ إلى حد كبير في الحركة الإعلامية والإبداعية، في وقت انحسر فيه اهتمام رأس المال الخاص بهذا المجال أو زادت مخاوفه، سوى في حدود ضيقة، زاد ذلك من معاناة المؤسسات الناشئة، التي كان عليها أن تسير بتوازن دقيق، وعناية محكمة؛ سعيا إلى النمو والتطور.
لقد عانت مؤسسات الإعلام العربي، مثل غيرها من المؤسسات الخاصة، هذا التحدي، خاصة في ظل تجنبها الدعم الرسمي على اختلاف صوره، وحرصها على أن تطور نفسها بنفسها، مستعينة بإيرادها الخاص والمحدود، ما يبقي تلك المسألة في مقدمة الاهتمامات وفي رأس الأولويات، ولعل ما يجري في الشارع العربي يحتم ضرورة التفكير مجددا في الشكل الذي يجب أن يكون عليه الإعلام فيما بعد ربيع الثورات العربية الآنية. وهو ما يستدعي البحث عن صيغ مبتكرة تعين على تغيير شكل التغطية وأدواتها والمساهمة في خلق اتجاهات وميول إيجابية في المجتمعات العربية.
إن الافتقار عربيا إلى صيغ دعم لإنشاء إعلام حر بعيدا عن تأثير الحكومات للاستثمار فيه، على غرار ما هو حاصل في الغرب، أدى إلى ضعف قدرة الإعلام بوصفه أداة مهمة من أدوات التغيير الاجتماعي والسياسي، وعنصرا أساسيا من عناصر التأثير في الرأي العام وصياغة توجهاته وفق الأهداف الوطنية.
أخيراً نشير إلى أن تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2002 ركز على إخفاقات العالم العربي التي تمثلت في ثلاثة نواقص أساسية وحصرها في: تراجع الحكم الصالح القائم على الحرية وحقوق الإنسان، وتمكين المرأة في العالم العربي، وأخيرا تراجع المعرفة عربيا.
والنقيصة الثالثة شكلت محور التقرير الثاني لتقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2003، الذي ركز على المعرفة باعتبار أنه من الصعوبة بمكان تحقيق الحكم الصالح وتمكين المرأة في مجتمع تُحبس فيه المعرفة وتصادر فيه الحرية وتنتشر فيه الأمية؛ ولأن الثقافة والإعلام يعدان الرافعة الموضوعية لإحداث المعرفة، فإن المسؤولية تظل ملقاة على عاتقهما في تحرير المجتمع وتنويره ثقافيا.