خلدون النقيب وقلق البحث عن مفهوم أفضل للدولة

بغياب المفكر الكويتي خلدون النقيب، رحمه الله، يمكن القول إن الثقافة العربية بعامة والخليجية بخاصة خسرت مثقفا تقدميا تنويريا بامتياز، فالنقيب الذي توفي عن عمر ناهز الـ 70 عاما، شهد تحولات الدولة العربية والمجتمع العربي المعاصر بما مر به من انعطافات كبرى، وتحولات في بنيته الثقافية والسياسية والاقتصادية. وحول هذه الانعطافات كان مدار بحوث المرحوم، التي ظل النقيب بها يراقب باستمرار التحول المجتمعي وبنية الدولة، وبقي متمسكا بخيار العقلانية العربية مع النقد الملتزم الذي جعله في صفوف المثقفين العرب من دول الخليج. وهذه الموقعية المتقدمة نالها لعدة اعتبارات أهمها ممارسته النقد دون مواربة، والوضوح في الرأي، والثبات في الموقف الفكريز ولا يمكن هنا إغفال الحرية التي عاشتها الكويت بعد الاستقلال ودورها في الارتقاء بإسهامات عدد من المفكرين.
برزت مسألة الدولة كأحد أهم المجالات البحثية عند خلدون النقيب، فقد عنى بها وبتشكل أنماطها، إذ وقف النقيب مطولاً عند أنماط الإنتاج المؤسسة للدولة في المشرق العربي الحديث، وحدد هذه الأنماط بثلاثة هي: الرعي والزراعة والصيد، ويرى أن هناك مجتمعات قبلية غلب عليها نمط أو أكثر، وبخاصة القبائل التي استقرت في المدن والقرى طوال القرنين 18 و19.
وهو يخلص إلى أهمية العامل الاقتصادي في حياة مجتمعات الخليج العربي، إذ يعتقد النقيب أن مجتمعات الجزيرة العربية، ما كان لها أن تستمر إلى اليوم إلا بوجود نسق اقتصادي اجتماعي سياسي، يضمن الشروط الضرورية لاستمرا هذا البقاء، حتى لو كانت دعائم هذا النسق وقواعد التفاعل في داخله تبدو غريبة للمراقب الخارجي.
عاين النقيب مجتمعات الدولة القطرية لخطة ولادة النظام العالمي الجديد، الذي رأى أنه يكمن في الزمن العالمي الذي بدأ مع حركة الكشوف الجغرافية على يد البرتغاليين والإسبان، بداية القرن الـ 16، وهو يرى أن التأسيس الأوروبي لهذا النظام لم يرتكز على مبدأ الدولة القومية وحسب، بل إن هذا النظام ما كان له أن يستمر لولا تجارة المسافات الطويلة التي كانت دعامته الأساسية. آنذاك حصل تبادل عالمي للاقتصاد سرعان ما تحول إلى تقسيم عالمي يجري بمقتضاه تخصيص الموارد، والمواد الأولية، وتصنيعها، وتسويقها، واستهلاكها، وجني الأرباح منها، واستثمارها ثم إعادة استثمارها.
يستخدم النقيب مفهوم "التطور المشوه" الذي ضرب وأصاب المجتمعات العربية في اللحظة الاستعمارية، وهو يرى أن دولا وأقاليم عربية مزقت وقسمت أو بلقنت بشكل صارخ. وكانت منطقة المشرق العربي أكبر ضحايا هذا التطور، فقد اصطنعت خمسة أقطار هي سورية، لبنان، فلسطين، الأردن، العراق، ومع أن لمعظمها نواة طبيعية كجبل لبنان، وولاية دمشق أو بغداد أو القدس، إلا أن عملية القص أو التفتيت التي حدثت حول كل منها كانت فادحة اقتصادياً وبشرياً. وكان الأردن أحد أبشع جرائم الاجتزاء فقد سلخ من قطع عدة، جنوب سورية ومشرق فلسطين وشمال الحجاز، وتم جمع هذه الأجزاء في قطر واحد هو الأردن.
وهناك بلاد ابتليت بأبشع أنواع الاحتلال مثل الجزائر وفلسطين. وفي الجزائر تم تفتيت البنية المجتمعية وإلغاء الهوية الثقافية عبر سلسلة قوانين على رأسها قانون الأهالي عام 1871 الذي طبقه الفرنسيون لإلغاء أسماء الناس واستبدالها بألقاب جديدة فيها تحقير وإهانة. والأمر ذاته عمل في المغرب مع قانون الظهير البربري أوائل الثلاثينيات من القرن الـ 20 عندما أراد الاستعمار إقناع البربر بخصوصيتهم الثقافية وعدم انتمائهم للهوية المغربية العربية الإسلامية.
في التنظير لمسألة الدولة والظروف التاريخية المنتجة إليها يمكن قراءة فكر خلدون النقيب ضمن مسار عربي قدمت فيه عدة أفكار من قبل النخبة العربية أمثال رضوان السيد الذي رأى أن فكرة الدولة عن المسلمين لم تتبلور، بقدر ما تحقق التنظيم الإسلامي في مشروع وحدة القاعدة البشرية وهو "الأمة" ووحدة الرمز السياسي وهو "الخليفة". أما محمد عابد الجابري فقد انتقد الخطاب السلفي سواء الماضي أو المعاصر والذي تركز حول الخلافة، وانتقد السلفيين في وقوفهم عند الماضوية.
وخلدون النقيب يمكن أن يكون ضمن هذا المسار الفكري العربي المعاصر في البحث عن مسألة الدولة، وهو جزء من عقليات عربية حاولت أن تجد صيغة مناسبة تراعي طبيعة المكون والتأسيس التاريخي للسلطة في الإسلام، أو عبر البحث عن نموذج معاصر قريب من المعنى الغربي الحديث للدولة. ومن هؤلاء المثقفين العربي الذي يقرأ النقيب إلى جانبهم الطيب تيزيني، وبرهان غليون، ويوسف مكي، وعزيز العظمة، وحسين مروة، وعادل حسين، وغيرهم.
في دراسته لمسألة فقه التخلف أراد النقيب أن يؤسس لنهج جديد في النقد من خلال تأصيل لمنظومة أفكار قومية عربية حداثية عبر رؤية نقدية للتاريخ العربي الحديث. وفي هذا النقد مارس النقيب العديد من الأساليب الناقدة التي تؤكد إفادته من مختلف العلوم المعاصرة والتي وظفها في سبيل ممارسة نقدية واعية.
في السياسة يجد القارئ المرحوم النقيب كما يجده في التحليل الاجتماعي والثقافي، وضوح في الرؤية وسعة في الإطلاع التي تبين أن الرجل يكتب بمنطق العارف الواعي، فخلدون النقيب، اسم كويتي محترم بين علماء الاجتماع العرب، ظل وبقي مفكرا له إطلالته الموسوعية على علوم الاجتماع والسياسة وطبيعة التركيبة العربية. بقي دونما تغير يذكر في ملامحه الفكرية، حافظ على علميته وبهائه، ولم يجامل في الرأي العلمي الذي لم ينبهر بمال ولا موقع. وكان بوسعه أن يكون في أي مكان يطمح له أي مثقف مستنير في دولة من دول المشرق العربي ذات البنى التقليدية السائدة.
لكنه أراد أن يظل مستقلا، وألا يكون على مسافة واحدة من الجميع، فالمسافة الواحدة تعني اللاموقف والقدرة على التملص من كل المعارك بلا خسائر، فكلما اقتضت الحدة عبر النقيب عنها، وكلما اقتضى الوقت هدوءا ظل النقيب مشتعلا مشتغلا بأزمة الدولة العربية وتحولاتها، غير مهادن في رؤيته العلمية لمستقبلها.
في مسار التكوين نجد أن النقيب متنوع المعرفة والخبرة، إذ حصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة تكساس في الولايات المتحدة في عام 1976. ثم الماجستير في علم النفس الاجتماعي من جامعة لويسفيلل الأمريكية عام 1969. وحصل على درجة البكالوريوس في علم الاجتماع من جامعة القاهرة في عام 1963، أما في العمل فقد عمل النقيب رئيساً لقسم علم الاجتماع والخدمة الاجتماعية في جامعة الكويت خلال الفترة ما بين حزيران (يونيو) 1991 – أيلول (سبتمبر) 1992. وشغل خلال الفترة ما بين 1986 ـــ 1988 منصب عميد كلية الآداب في الجامعة. وترأس خلال الفترة بين 1983 ــ 1986 نشرة العلوم الاجتماعية التي تعد اليوم من أبرز المجلات العربية المحكمة اليوم.
اتسعت أعمال خلدون النقيب لتعاين مشروع الدولة العربية بأزمتها وقضاياها، وصدر الكثير من الأعمال المهمة حول المجتمع العربي، والتي شكلت مشروعا بحثيا له ولجيل من الباحثين العرب، ومنها محنة الدستور في الوطن العربي: العلمانية والأصولية وأزمة الحرية، والصراع مع الغرب والتاريخ المستعاد، والمشكل التربوي والثورة الصامتة: دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، واحتمالات التعاون، والصراع بين العرب والغرب والدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر: دراسة بنائية مقارنة وثورة التسعينات: العالم العربي وحسابات نهاية القرن، وحقوق الإنسان المسلم بين العدل والاستبداد، والمجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية: من منظور مختلف، وله كتاب مدخل إلى رواق الهزيمة: دراسة أولية عن نتائج حرب حزيران (يونيو) 1967. والدولة الشمولية في المشرق العربي: دراسة هيكلية مقارنة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991. ودراسته عن الأزمة الدستورية في العالم العربي: العلمانية والأصولية وقضية الحرية وله دراسة قيمة كتابات ابن خلدون. وصدر للمرحوم عشرات البحوث والكتب في الثقافة والتغيير الاجتماعي والتربية والتعليم العالي والتنمية.
صفة المركزية كعالم اجتماع لم تحل دونما اشتباك مباشر بأسباب التخلف والعلة المعضلة في عدم التقدم للأمام، لكنه كان واضحا في إشاراته إلى انعدام التنمية الحقيقة وتكريس الدولة الريعية وغياب البرامج العلمية والتربوية التي يمكن أن تسهم في تنصيب العقل والحرية كناظمين أساسيين لحياة المجتمع العربي الذي غاب عنه خلدون النقيب وهو ينتفض بشكل متزامن في ثلاث دول عربية ضد التخلف ومع الحرية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي