تناقضات «وول ستريت»

أطلق الهولنديون سابقا اسم أمستردام الجديدة على مدينة نيويورك، باعتبار أنهم كانوا يشكلون الغالبية السكانية لتلك المدينة منذ أكثر من ثلاثة قرون. وقد بنوا حائطا عاليا لكي يحميهم من المستوطنين البريطانيين، وأطلقوا على الشارع اسم وول ستريت والذي يعني شارع المال والمصارف. وعملت بورصة نيويورك منذ تأسيسها في وول ستريت على تحقيق مصالح أصحابها بالدرجة الأولى، حيث كانت بورصة نيويورك للأسهم منظمة خاصة مملوكة لأصحاب المقاعد فيها. وتمتع أعضاؤها بمكانة متميزة يطلعون من خلالها على بواطن الأمور وأدق تفاصيل عمل الشركات مما يتيح لهم معرفة ما الذي يمكن أن تحققه الأسهم في المستقبل القريب، حيث إنهم لم يكونوا يعملون إلا لحساب أنفسهم فقط. فقد كانوا يتحصلون على ما يعد كنوزا من المعلومات، مما مكنهم من تشكيل اتحادات احتكارية تمسك زمام الأمور وتتحكم في تحركات الأسهم. وقد أحكمت تلك الفئة سيطرتها لسنوات، وقامت بالعديد من الانتهاكات، وعارضت إجراء إصلاحات. وكانت فترة عشرينيات القرن الماضي، مرحلة ذهبية حيث سجلت البورصة مستويات تاريخية من الارتفاعات. كان رئيس البورصة وقتها ريتشارد ويتني، الذي اعترف، بعد الانهيار المدوي الذي حصل أوائل الثلاثينيات، أن هناك حاجة لإجراء إصلاحات جذرية. ورغم تاريخه الحافل بالمضاربات واستغلال المعلومات، إلا أنه تصدى لمحاولات كبار المضاربين منع إجراء تعديلات، وسعى جاهدا لاتخاذ إجراءات رقابية مشددة على موضوع استغلال المعلومات من قبل الأعضاء وتسريبها إلى الأقارب والأصدقاء. وتلاحقت وتيرة التغييرات حيث لجأ الكونجرس في 1938 في عهد الرئيس روزفلت، إلى تشكيل لجنة الأوراق المالية والبورصة للإشراف على تلك الصناعة.
لكن مفاجأة الحدث أن يكون أول شخص قد تم اختياره لرئاسة اللجنة هو جوزيف كنيدي، أحد كبار مضاربي البورصة خلال فترة العشرينيات الصاخبة. وشنت مجلة «نيوزويك» حملة من الانتقادات العنيفة للخيار السابق، حيث ورد فيها: «أن السيد كنيدي، المضارب ومدير اتحاد احتكاري سابق سيكبح جماح المضاربة و يحظر الاتحادات الاحتكارية».
حتى أن المجلة ذهبت إلى وصف الحالة على أنها «تكليف الثعلب بحماية حظيرة الدجاج». وهو الأمر الذي اضطر مجلس الشيوخ لإرجاء تثبيته في المنصب ومنحه فترة ستة أشهر لمراقبة أدائه. لكن الرجل كان غاية في الذكاء والثراء وأبلى حسنا في فترة الاختبار، ولم يحاول التربح من منصبه، بل وعمل على القضاء على الكثير من الممارسات الخاطئة السابقة مما استوجب تثبيته في المنصب دون معارضة. الانقلاب الرئيسي الأهم قاده ويليام دوجلاس، ثالث رئيس لتلك اللجنة. المحرض الأكبر لتغييرات دوجلاس كان بسبب تصرفات الرئيس السابق لبورصة نيويورك ريتشارد ويتني التي استقال منها في 1935، لكنه ولسخرية القدر، لعب دورا جوهريا في إجبار بورصة نيويورك على إغلاق تعاملاتها في 7 آذار (مارس) 1938. لأن ويتني رغم استقالته، من منصب الرئيس فقد بقي من ضمن مجلس محافظي البورصة و بالتالي بقي يتمتع بخاصية الاطلاع على المعلومات والاستفادة منها في عمليات شركة السمسرة التي يملكها. لكن الرجل كان مفرطا في البذخ مما قاده للاقتراض من معارفه وأصدقائه ثم امتدت يده إلى حسابات العملاء وصولا إلى صندوق ائتمان زوجته. وتوالت اختلاساته من محافظ كبار العملاء، مما اضطر البورصة أن توقف تعاملاتها، وأصيب متداولو وول ستريت بصدمة عنيفة. هذا الأمر استطاع استثماره دوجلاس في إقرار دستور جديد للبورصة يخدم المصلحة العامة، حيث تم إقرار أهم تعديل ألا وهو أن يكون رئيس البورصة موظفا يدفع له راتب و ليس عضوا مخولا بالاطلاع على كل الأسرار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي