مكافحة الفساد من أهم مقومات الحياة المستقيمة (5)

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد، تواصلا مع ما سبق أن كتبته في المقالات الأربعة الأسبوعية على التوالي، فإني أبدأ من حيث وصلت وهو من المرتكز (3) من الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد، وعلى هذا الأساس نتكلم عما يتسع له المقال دون تطويل فيما يأتي:
( 3 - إقرار مبدأ الوضوح ''الشفافية'' وتعزيزه داخل مؤسسات الدولة عن طريق ما يلي:
أ - التأكيد على مسؤولي الدولة أن الوضوح وسيلة فاعلة للرقابة من الفساد، وأن اعتماده كممارسة وتوجه أخلاقي يضفي على العمل الحكومي المصداقية والاحترام.).
في هذا المرتكز المهم نُص على ضرورة إقرار مبدأ الوضوح (الشفافية) وجعل ذلك معززا داخل مؤسسات الدولة جميعها دون استثناء؛ لأن الوضوح والشفافية مُؤكد للمصداقية والاحترام في العمل كما هو موضح في الفقرة (أ) عندما خُص كل مسؤول في الدولة بهذا التأكيد المهم باعتباره توجها أخلاقيا في الممارسات العملية، والوضوح يُعد وسيلة فاعلة للرقابة من حصول أي فساد، فلا بد من الاهتمام بجعله أساس العمل في المؤسسات والأجهزة الحكومية لحماية النزاهة التي تؤدي - بطبيعة الحال - إلى مكافحة الفساد.
(ب - تسهيل الإجراءات الإدارية والتوعية بها وإتاحتها للراغبين، وعدم اللجوء إلى السرية إلا فيما يتعلق بالمعلومات التي تمس السيادة والأمن الوطني.).
نعرف أن تطويل وتعقيد الإجراءات تُعد من معوقات إنجاز العمل، وقد تكون سببا من أسباب الفساد؛ ولهذا أوجبت هذه الفقرة على كل المؤسسات والأجهزة الحكومية ضرورة تسهيل الإجراءات الإدارية لسرعة إنجاز الأعمال، ومن أجل تحقيق ذلك لا بد من توعية المراجعين بهذه الإجراءات؛ حتى يسهل القيام بالأعمال والتصرفات، بل من الضروري إتاحة الفرصة لمعرفة كل الإجراءات لكل راغب في معرفتها، وليس من حق أي مسؤول أو موظف حجبها عمن يرغب في ذلك، والادعاء بسريتها طالما أنها لا تتعلق بأعمال سيادية، أولها صلة وثيقة بالأمن الوطني، فهذه الأخيرة مستثناة لطبيعتها الخاصة.
(ج - وضع نظام لحماية المال العام.).
المال العام - في الغالب - هو المعرض لوسائل الفساد من قبل ذوي النفوس الضعيفة الذين لا يخافون من الله العزيز القدير؛ ولهذا فإن وضع نظام مُحكم لحماية المال العام من أساسيات حفظه من الفساد؛ حتى لا تكون فيه ثغرات تمكّن لأحد من الولوج إلى أخذ المال العام دون وجه حق، فهذا من وسائل مكافحة الفساد.
( د - توضيح إجراءات عقود مشروعات الحكومة والمؤسسات العامة والشركات المساهمة، وإعطاء الجمهور والمؤسسات المدنية ووسائل الإعلام حق الاطلاع عليها ونقدها.).
من وسائل مكافحة الفساد توضيح إجراءات عقود المشروعات بشكل لا لبس ولا غموض فيه من حيث طرق المنافسة النزيهة والعادلة، وبيان المواصفات والشروط للأعمال المراد تنفيذها، وأن تتم بسرية تامة بحيث لا يكون لأحد المتنافسين فرصة الاطلاع على عروض المتنافسين الآخرين، فيضع سعرا أقل ليفوز عرضه بالترسية باعتباره أقل العروض، وغير ذلك من مسببات عدم الوضوح في الإجراءات المعيقة للحصول على أفضل العروض لتنفيذ المشروعات؛ حتى يكفل التوضيح - كما ذكر - فلا بد من إعطاء الجمهور والمؤسسات المدنية ووسائل الإعلام بأنواعها المختلفة حق الاطلاع على النظام والتعليمات الخاصة بالإجراءات، من أجل المعرفة والإحاطة بمقتضياتها، وإبداء ما يرونه من نقد موضوعي وشكلي.
(هـ - كفالة حرية تداول المعلومات عن شؤون الفساد بين عامة الجمهور ووسائل الإعلام.).
من وسائل مكافحة الفساد الفاعلة أن تُكفل حرية تداول المعلومات عن شؤون وجوانب الفساد بين عامة الجمهور، ووسائل الإعلام بأنواعها المختلفة باعتبار حرية تداول المعلومات تساعد على مكافحة الفساد.
( 4 ـ مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في حماية النزاهة ومكافحة الفساد عن طريق ما يلي:
أ ـ إشراك بعض منسوبي هذه المؤسسات في اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد المقترحة.).
في هذا المرتكز الرابع أُكّد على أهمية مشاركة مؤسسات المجتمع المدني في القيام بدور فاعل بالمشاركة في حماية النزاهة التي بدورها تؤدي إلى مكافحة الفساد بطرق عديدة منها ما نُص عليه في الفقرة (أ) بأن تتاح الفرصة لإشراك بعض منسوبي هذه المؤسسات في اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد المقترحة؛ لأن هذه المشاركة ستعزز دور الجهات الرقابية بالقيام بواجباتها، وبالذات الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد.
(ب - إشراك هذه المؤسسات - حسب اختصاصها - في دراسة ظاهرة الفساد وإبداء ما لديها من مرئيات ومقترحات تمكن من الحد منه.).
في هذه الفقرة نُص على إشراك المؤسسات المدنية كل حسب اختصاصها في دراسة ظاهرة الفساد دراسة عميقة وشاملة تمكنها من إبداء ما يظهر لها من آراء مفيدة يبنى عليها مقترحات نافعة تمكّن من الحد من الفساد بكل أنواعه، والسبل التي تؤدي إليه، وهذه من أهم الطرق التي تساعد على مكافحة الفساد.
(ج - حث الهيئات المهنية والأكاديمية كالأطباء والمحامين والمهندسين والمحاسبين على إبداء مرئياتهم حول الأنظمة ''الرقابية والمالية والإدارية'' وتقديم مقترحاتهم حيال تطويرها وتحديثها.).
وهذا الطريق لا يقل أهمية عن السابقين؛ لأن حث الهيئات المهنية والأكاديمية على المشاركة الحقيقية بالقيام بدورها الوطني حسب تأهيلها العلمي وخبرتها العملية من خلال الممارسات أن تبدي آراءها حول الأنظمة الرقابية والمالية والإدارية، وإظهار كل ما يرونه من قصور أو لبس أو غموض يكون سببا في حصول الفساد، ومن ثم تقديم المقترحات المفيدة والنافعة لتطوير الأنظمة، وتحديثها بما يزيل كل عيب يؤثر في حسن التطبيق.
(د - حث الغرف التجارية والصناعية على إعداد خطط وبرامج لتوعية رجال الأعمال والتجار بمخاطر الفساد وأسبابه وآثاره، وإيضاح مرئياتهم حيال الأنظمة المالية والتجارية.).
وآخر الطرق في المرتكز (4) النص على حث الغرف التجارية والصناعية لتقوم بدور فاعل بإعداد خطط وبرامج واضحة لتوعية رجال الأعمال والتجار بمخاطر الفساد والأسباب المؤدية إليه، والآثار المترتبة من جراء حصوله، وهذا باعتبار الغرف المرجع الأول لرجال الأعمال والتجار والصناع، إضافة إلى إعداد الخطط والبرامج والتوعية تقوم الغرف بإيضاح آرائها في الأنظمة المالية والتجارية التي لها علاقة بها بحكم دورها في علاقتها برجال الأعمال والتجار والصناعيين، وتوصيل كل ما يهمهم إلى الجهات الحكومية والمؤسسات العامة.
( 5 - توعية الجمهور وتعزيز السلوك الأخلاقي عن طريق ما يلي:
أ - تنمية الوازع الديني للحث على النزاهة ومحاربة الفساد عن طريق وسائل الإعلام المختلفة، وخطباء المساجد والعلماء والمؤسسات التعليمية وغيرها، وإعداد حملات توعية وطنية تحذر من وباء الفساد.).
في هذا المرتكز الخامس ركز على أهمية توعية الجمهور بكل الوسائل بما يكفل تعزيز السلوك الأخلاقي بالطرق الموضحة في الخمس فقرات باعتبارها تحقق الأهداف لمكافحة الفساد، وهذا يكفل وجود حياة مستقيمة يسودها الأمن والاستقرار، فالفقرة (أ) تؤكد أهمية تنمية الوازع الديني في المجتمع؛ بغية الحث على كل عمل وتصرف نزيه، ومحاربة الفساد عن طريق وسائل الإعلام المختلفة ''المسموعة والمقروءة والمرئية''، وليس هذا فحسب، بل مشاركة خطباء المساجد والعلماء والمؤسسات التعليمية وغيرها بالتوعية التي ترسخ الوازع الديني الذي يحصن الفرد، ويجعله رقيب نفسه ذاتيا، فضلا عن ذلك بالحرص على إعداد حملات توعية وطنية مستمرة تحذر من وباء الفساد وآثاره الضارة.
(ب - التأكيد على دور الأسرة في تربية النشء ودورها الأساسي في بناء مجتمع مسلم مناهض لأعمال الفساد.).
لا شك أن دور الأسرة في تربية النشء يُعد من أولويات كفالة صلاح المجتمع واستقامته، ولهذا كان الحث والتأكيد على دور الأسرة لما له من أهمية أساسية في بناء مجتمع مسلم صالح مستقيم يناهض كل عمل وتصرف فاسد يخل بأمن واستقرار الحياة العامة، فالرجل المسلم التقي يعمل ويساعد على محاربة الفساد بكل السبل، ومن أولوياتها تربية أبنائه التربية الدينية ليكون مستقيما صالحا يشارك في محاربة الفساد.
( ج - حث المؤسسات التعليمية على وضع مفردات في مناهج التعليم العام والجامعي، والقيام بتنفيذ برامج توعية تثقيفية دورية عن حماية النزاهة والأمانة ومكافحة الفساد وإساءة الأمانة.).
بعد إيضاح دور الأسرة في الفقرة السابقة يأتي التأكيد على دور المؤسسات التعليمية بمختلف مراحلها؛ وذلك بحثّها على وضع مفردات واضحة وجلية في مناهج التعليم العام والجامعي، والتنفيذ الجاد والحثيث وفق برامج توعية تثقيفية موائمة لمستوى الدارس، وبشكل دوري، يركز على النزاهة في القول والعمل، والأمانة والصدق ومكارم الأخلاق التي ترسخ في ذهن الدارس المثل العليا، ومن ذلك مكافحة الفساد بأنواعه، وإساءة الأمانة بتجنب كل ما يؤدي إلى خيانة الأمانة.
( د - حث المواطن والمقيم على التعاون مع الجهات المعنية بمكافحة الفساد والإبلاغ عن جرائم الفساد ومرتكبيها.).
ويأتي في هذه الفقرة التأكيد على حث كل مواطن ومقيم بأن يشارك في مكافحة الفساد من خلال تعاونه الصادق والنزيه مع الجهات المعنية المختصة بمكافحة الفساد عن طريق الإبلاغ عن كل جريمة من جرائم الفساد المتنوعة، وعن مرتكبيها بصدق وأمانة بعيدا عن البلاغات الكيدية الكاذبة، وأن على الجهات المعنية التجاوب مع كل بلاغ يصل إليها، والتحري الجاد من صحته، وتشجيع المتعاون بالثناء والإطراء، والحوافز المادية والمعنوية، واتخاذ الإجراء الحازم والقوي مع كل مبلغ ببلاغ كيدي بإحالته إلى الجهة المختصة لمقاضاته وتوقيع العقوبة المناسبة.
( هـ - العمل على وضع برامج توعية تثقيفية في مجال حماية النزاهة ومكافحة الفساد في القطاعين العام والخاص.).
وهذه الفقرة الأخيرة من المرتكز (5) فيها حث عام وشامل على وضع برامج توعية تثقيفية في مجال حماية النزاهة والترغيب فيها، ومكافحة الفساد والتحذير منه، وذلك في القطاعين العام والخاص حتى تتحقق الأهداف السامية في الحرص على كل عمل وتصرف نزيه، وبالتالي تجنب العمل والتصرف الفاسد المقيت الضار.
نأسف للإطالة رغبة في استكمال المناقشة والتحليل للمرتكزات الثلاثة (3 و4 و5) ليبقى بعد ذلك الكلام عن المرتكزين (6 و7) في المقال التالي - إن شاء الله، والله الموفق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي