المملكة والتنمية المستدامة
التنمية المستدامة تحمل العديد من المفاهيم التنموية المختلفة، وتشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية وتحقيق الاستقرار الأمني والمعيشي وتوافر الخدمات والمرافق وتكامل عناصر التنمية، بما فيها التوازن والتوازي والشمولية للإنسان والمكان على كامل الحيز الجغرافي الوطني. وما يشغل البال ويؤرقه في مجال التنمية المستدامة استدامة توافر التدفقات المالية المنفذة للمشاريع الحيوية التنموية وتحقيق التوازن بينها وبين توفير البنية التحتية التي تشمل توفير المياه والكهرباء والصرف الصحي وتصريف السيول والاتصالات ووسائل التنقل المختلفة وتوفير الخدمات العامة من مساجد ومدارس ومرافق صحية وخدمية، التي في الغالب لا تتحقق التنمية المستدامة إلا بوجودها قبل إنشاء المشاريع الحيوية والأساسية وتوطين التنمية وفرص الاستثمار وتحقيق فرص العمل في مختلف قطاعات الدولة الحكومية والخاصة وغيرها.
إن تحقيق التنمية المستمرة والمستدامة يتطلب إيجاد التمويل الحكومي المستمر، خصوصا لمشاريع البنية التحتية وصيانتها، وأيضا توفير التمويل المستمر للمشاريع الرائدة التي لا يستطيع القطاع الخاص المبادرة بها أو تحمل تكاليف إنشائها وحده، وهي في الغالب المشاريع ذات النفع العام التي تتطلبها مشاريع التنمية ولا يمكن استقطاب الاستثمارات في ظل غيابها، ولهذا فإن تحقيق استمرار توافر السيولة والتمويل الحكومي أمر ضروري لتحقيق التنمية المستدامة وتكامل عناصرها.
إن تجربة المملكة في العقود التنموية الماضية خير شاهد على أهمية التفكير المتزامن حول أهمية تحقيق استمرار توافر الدعم الحكومي لمختلف مشاريع التنمية، فخلال الوفرة المالية الأولى بعد ارتفاع أسعار النفط في منتصف السبعينيات الميلادية من القرن الماضي حدث انفجار تنموي شمل أغلب المدن الرئيسة السعودية، وأدى إلى تدفقات استثمارية في مجال المقاولات والطرق فاقت المخطط له خلال خطة التنمية الأولى والثانية الخمسية، وأدى ذلك إلى عدم الاستفادة القصوى من تلك الوفرة المالية العالية، ثم عقب ذلك انخفاض لأسعار النفط إلى شبه شلل في السيولة الحكومية؛ ما أدى إلى توقف العديد من المشاريع الحيوية وفي مقدمتها توفير البنية التحتية، وأدى ذلك إلى استمرار النمو العمراني للمدن دون مواكبة ذلك النمو بالتنمية من خلال توفير المرافق والخدمات، وهو ما نشاهده اليوم من انتشار للمساكن ونمو للمدن دون توافر للمرافق والخدمات، وخلال فترة تجاوزت 20 عاما من الفجوة بين توفير المرافق والخدمات واستمرار المدن والقرى في النمو العمراني أوجد العديد من المدن التي لا تتوافر فيها البنية التحتية بالشكل المطلوب، ومع ارتفاع أسعار النفط خلال المرحلة الثانية وتدفق السيولة عاد الضخ التنموي للمدن واعتماد آلاف المشاريع الخدمية؛ ما أدى إلى فوضى تنموية في تلك المدن بسبب حجم المشاريع ومتطلبات الحفر والردم، وكما نعرف جميعا أن الترميم أصعب من البناء، ولهذا فإننا نعيش اليوم مع الوفرة المالية الثانية وما يتم خلالها من اعتماد المليارات من الريالات للمشاريع التي نعرف صعوبة تنفيذها لأسباب عديدة لم تعد تخفى على أحد.
إن القراءة المتأنية للمرحلة التنموية الماضية بين الوفرتين الماليتين وما صاحبهما من تخمة، ثم عجز يتطلب التفكير المتأني وقراءة أفضل السبل التي يمكن الأخذ بها لوضع الرؤية التنموية المستدامة للمملكة خلال الحقبة القادمة وما قد يواجهها من مصاعب تنموية تمويلية حكومية، ولعل من نافلة القول قبل الدخول في طرح بعض الأفكار التمويلية المستدامة الإشارة إلى الصعوبات التي واجهتها وزارة المالية خلال فترة انخفاض أسعار النفط وعدم قدرتها على تمويل العديد من المشاريع حتى أن المصادر المؤكدة تشير إلى أن الوزارة واجهت خلال تلك الفترة مشكله ضمان توافر الرواتب للموظفين الحكوميين، ولعل البعض يتذكر التخفيضات التي تم إجراؤها على مخصصات الموظفين؛ ما جعل من الرواتب الحكومية الأضعف بين أجور العاملين بين بقية القطاعات، خصوصا القطاع الخاص.
إن التركيز على وضع خطة تنموية وتحديد وسائل وأساليب تمويلها أمر ضروري يتطلب الاستعداد له من الآن؛ لأن ما تعلمناه من دروسنا السابقة يجعلنا أكثر حرصا على التفكير في فترة الرخاء المالي التي نعيشها اليوم وألا نكرر الخطأ التنموي السابق المتمثل في جعل الميزانية هي التي تقود الخطة التنموية، أي بمعنى أن نضع العربة أمام الحصان كما فعلنا في السابق، ثم نتساءل جميعا: لماذا لم تحقق الخطط الخمسية للدولة أهدافها؟ ولماذا هذا النقص المخجل للبنية التحتية في مدننا؟ ولماذا.. ولماذا، وكل الأسئلة التي حاول الجميع الإجابة عنها واتهام الآخرين دون تشخيص حقيقي للمشكلة، وهي أننا جعلنا من الوفرة المالية الموجهة لنا، ومتى ما غاب المال غاب العمل وتعطلت التنمية وتخلف الأداء.
إن وضع الخطط الخمسية وتحديد مشاريعها وإيضاح الأهم أولا، ثم المهم وتحديد مصادر التمويل والعمل المبكر على إيجادها وتحقيق التوازن التنموي في الاعتماد والتنفيذ خلال سنوات الخطط الخمسية التنموية وتقويم تلك الخطط ومعرفة المنجز والمتعثر وأسبابه ومعالجة تلك الأسباب، ثم إعادة تحديث الخطة بما يضمن حسن الأداء والإنجاز واستمرار العمل وفقا للخطة لا الميزانية وما توفره من سيولة متغيرة.
الرؤية التنموية للمملكة تتطلب بشكل جاد وسريع وربما مؤلم بعض الشيء إيجاد قنوات وعمل بعض الإجراءات التي قد لا ترضي البعض خلال المرحلة الأولى، خصوصا أصحاب المصالح الخاصة الذين لا يهمهم إلا ما يحققونه من كسب مباشر وزيادته على حساب مستقبل الوطن ومصالحه وديمومة استقراره ورخائه، ومن تلك الإجراءات المطلوبة وضع رسوم أو ضرائب على العوائد الاستثمارية للمحال التجارية والفنادق والمطاعم وغيرها مما تقوم تلك الاستثمارات أساسا بأخذه مثل بدل الخدمة في الفنادق والمطاعم، ولعل الدراسة المتأنية للعديد من الحلول ومنها ما يسمى الرسوم أو VAT التي تم تطبيقها في العديد من دول العالم وحققت نتائج إيجابية وكان لها دور أيضا في تخفيض التضخم وارتفاع الأسعار، إضافة إلى ما تحققه من عوائد مالية مباشرة لخزانة الدولة يتم توجيهها لخدمة المشاريع الخدمية، وفي مقدمتها توفير المرافق والخدمات العامة وتحقيق التوازن بين النمو العمراني والتنمية المستدامة بشكل شامل ومستمر.
إن وضع البدائل التمويلية التنموية الدائمة التي لا تعتمد على مصدر واحد خير معين لتحقيق التنمية المستدامة وعدم العودة إلى مشكلة تأخر وربما تخلف المدن عن التنمية وأيا كانت البدائل التمويلية المستدامة فيجب أن تراعى حقوق ومتطلبات المواطن دون جور عليه، لكن في الوقت نفسه دون إيذاء للتنمية ومتطلبات الأجيال القادمة من المشاريع وتوفير المرافق والخدمات وتوطين التنمية وإيجاد فرص العمل. ولي عودة - إن شاء الله - للمزيد من الطرح حول بدائل التمويل التنموي المستدام لمصلحة الوطن ككل، بارك الله في الجهود التي تُعمل من أجل وطن سعودي الانتماء، عربي اللسان، إسلامي المعتقد وعالمي الطموح.
وقفة تأمل
إذا كنت مختصا لنفسك صاحبا
فمن قبل أن تلقاه بالود أغضبه
فإن كان في حال القطيعة منصفا
وإلا فقد جربته فتجنبه