إيران وجوارها والتحالف الغادر
يوم أطل أحمدي نجاد على شمال إسرائيل حين كان يتجول في جنوب لبنان في زيارته لـ ''جمهورية حزب الله الجنوبية'' في تشرين الأول (أكتوبر) 2010، كان سيد طهران ما زال منتشيا بدعم المرشد الأعلى له، وفي الوقت ذاته كان يلقى الترحاب الكبير في لبنان وكذلك في سورية، كونه جاء مبشرا بالنصر المنتظر، وكان يدفع الجماهير لتذكر فلسطين، ويومها وعد من جنوب لبنان بالتحرير. لكن النتيجة التي لم يتوقعها نجاد أن الشباب العربي الذي قاد مسيرات لحدود إسرائيل في ذكرى النكبة لم يكن ينتظر إشارة سبابته أو طلب من صاحب العمامة الكبرى المرشد علي خامنئي.
والوعود كثيرا ما أطلقت باسم فلسطين، وفلسطين ضاعت، بيد أن الوعود لم تأت بعد، وإيران كانت سيدة الكسب في هذا المجال، هناك ثمة جيش للقدس يعد ليوم منتظر في تاريخ البشرية، وحزب الله يقدم الصورة المقاومة أيضا، لكن في ظل عملية الرصاص المنهمر التي ذاق حرها الغزاويون لم ينبس السيد نصر ببنت شفة، والأمريكان دخلوا العراق بمباركة من ملالي النجف وبتواطؤ من طهران، ودعم مباشر من مرجعيات قم، ومع ذلك يصر أحباء نجاد وخامنئي وخاتمي وكروبي بقاء إيران في صفة المقاومة.
فضيلة الزمن الراهن أنها لم تعد تخفي الأدوار الإيرانية في المنطقة على الناس، حتى حماس التي تاجرت بمعسكر ممانعة تتزعمه طهران آلت للصواب والرشد، وهذه ورقة إيرانية سقطت، وسورية الحليف الأكبر، ظرفها اليوم صعب وتكاد تفقد بوصلتها، إذ ثبت أن العلاقة مع طهران لا تحول دون الفوضى والاضطراب، بل إنها علاقة عمقت السخط لدى الناس على النظام السياسي هناك، فالمقاومة لا تعني وأد الحرية والابتهال للاستبداد، وحزب الله يصعِّد كل فترة خطابه السياسي الإعلامي، مقدما مزيدا من وعود الانتصارات المنتظرة، وكل نصر حقق بدماء أبناء الشعب اللبناني كان نصر الله يهديه للإمام علي خامنئي ويقبض ثمنه ماديا ومعنويا.
قبل عامين كان نجاد يطل من منطقة بنت جبيل التي شهدت أعتى لحظات القصف الصهيوني إبان حرب 2006 مبشرا بزمن جديد للأمة، ومن هناك التف الناس حوله، وما كان منه إلا أن ردد ذات الوعود، وتلك الوعود كافية لدوام صورته بين محبيه الذين يرون فيه في الشارع العربي حالة مقاومة.
ومع كل الدعم الإيراني والتمدد في لبنان وجارتها الكبرى سورية إلا أنها فشلت في النفاذ بشكل فاعل إلى بقية الجوار، هناك تعاطف لكنه لا يرقى لحد الولاء أو التبعية ولا مجال للنفاذ منه للأعماق العقدية والاستراتيجية، وفي مقابل هذا الصد الذي تلاقيه نجدها تحاول الوصول إلى دول الخليج العربي وزعزعة استقرارها، لا حاجة لتأكيد النماذج الدالة على ذلك، لكن الثابت أن إيران تحاول الحضور أينما حضر الفقر والبطالة وتحاول إذكاء الهويات الفرعية وتعزيز الانقسام، وقد حاولت أن تمد يدها مثلا في الأردن عبر حملات تشيع في بعض المخيمات الفلسطينية ومدينة السلط وجيوب الفقر، وتم تدارك الخطر، كذلك الحال حصل في حي إمبابة في مصر.
الأردنيون والكويتيون والسعوديون والمصريون أيضا ليس لديهم مشكلة مع الشيعة كمذهب من مذاهب الإسلام مع الاختلاف، لكن عندهم رفض حين تكون الغاية التحول لشيعة صفوية الروح فارسية الأهداف والمبتغى، وذاك ما قاله علي شريعتي.
لكن إيران لا تقنع بذلك، فهي تحاول عبر مرجعياتها الدينية ووسائلها المكشوفة النفاذ إلى مجتمعات السنة، ومن تلك الوسائل الفضائيات، والغريب أن جزءا منها يبث عبر القمر الصناعي الإسرائيلي ''آموس'' AMOS، وتفيد المعلومات أن هناك ست قنوات دينية إيرانية موجهة إلى العرب تبث من قلب تل أبيب، وتقف وراءها واحدة من كبريات شركات الاتصالات الإسرائيلية ـــ بحسب ما نشر موقع ''سات إيدج'' sat age المتخصص في رصد حركة الأقمار الصناعية حول العالم.
هذه القنوات هي: (آل البيت، الأنوار، فدك، الحسين، العالمية، الغدير)، وجميعها رغم اختلاف أسمائها توجد على القمر الإسرائيلي آموس، من خلال شركة RR Sat، التي يمتلكها رجل الأعمال اليهودي ديفيد ريف David Rive، وتلبس القنوات المشار إليها رداء التشيّع وتتظاهر بالولاء لآل البيت وتجتهد في تمرير الرؤية الإيرانية وإقناع الجمهور العربي بها.
وتستهدف القنوات الدينية تجميل صورة إيران وتشويه المذهب السني والإيحاء بوجود قرآن في بلاد فارس مخالف للقرآن الذي بين يدي المسلمين السنة في بقية أنحاء العالم، وأن مصحف عثمان المتداول منذ 1400 سنة فيه أخطاء فجة، بينما المصحف الإيراني خالٍ من الأخطاء! كما تعمل تلك القنوات على تهيئة العقول لقبول المذهب والفكر الشيعي في إطار ما دعا إليه الخميني في بداية قيام الثورة الإيرانية الإسلامية قبل نحو 30 عاما بضرورة ''تصدير الثورة الخمينية إلى جميع أنحاء العالم''. ويعد ما يحدث من تواصل إيراني ـــ إسرائيلي في مجال الإعلام الفضائي حلقة جديدة من مسلسل التحالف السري المشبوه بينهما، وقد سبق أن أشار إليه الكاتب الأمريكي تريتا بارسي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جون هوبكينز من خلال كتابه ''التحالف الغادر''، الذي أكد من خلاله أن إيران هي الدولة الثانية في الشرق الأوسط بعد إسرائيل التي تضم عددا كبيرا من اليهود والمزارات اليهودية، كما يضم البرلمان الإيراني نوابا من اليهود، بينما لا تجد في طهران مسجدا للسنة.
في الحالة الإيرانية المهددة لدول الجوار وعلى رأسها دول الخليج ربما تكون الحالة البحرينية نموذجا واضحا على رغبة إيران في تصدير مشكلاتها بعد تآكل الثورة ونظام ولاية الفقيه، وهذا التصدير يأتي عبر فتح جبهات خارجها، توفر لها استمرار الجاذبية وخضوع الأتباع للولي الفقيه علي خامنئي الذي بات أخيراً يبارك الثورات على الأنظمة العربية، ويناقض نفسه حين يأذن لقوات الحرس الثوري بتعذيب وقتل دعاة الإصلاح وشباب جامعة طهران الذين داسوا صورة خامنئي لأول مرة منذ قيام الثورة على يد الراحل الإمام الخميني.
كان خامنئي في ظل التحولات العربية الراهنة قد حدد موقفه من الاستبداد في مصر وتونس، وبارك ثورة البلدين ونسي نفسه، باعتباره ظل الله في الأرض والحاكم بأمره، فالولي الفقيه الذي ينوب عن الإمام الغائب نسي أن أبشع أنواع الاستبداد هو الاستبداد الديني الذي يستند إلى ما يسمى بـ ''الثوابت الدينية''. لذلك نجده يفرض رأيه مستندا إلى ''ثقافة المطلق''، التي تدوس على معارضيها والمختلفين معها من الإصلاحيين والليبراليين والوطنيين وكل آخر مختلف.
أنصار إيران يمترون مطولا في مسألة التهديد الإيراني للمنطقة العربية ويرفضون ذلك، ويعدونه اتهاما غير مقبول، ولهم الحق في ذلك، فالمال الإيراني أثره كبير، ولكن مهما رفضوا ذلك فعلى أرض الواقع هناك ثلاثة جيوش عربية تمول من إيران، جيش المهدي في العراق، وحزب الله وجيشه، وجيش القسام. وتلك الجيوش مع أنها تقاوم إسرائيل والوجود الأمريكي إلا أنها مرتبطة بأسباب انقسام دولها، في لبنان سلاح حزب الله طوق على الدولة، وفي العراق جيش المهدي يهدد بإسقاط الحكومة والعودة لمربع العنف، وفي غزة الجيش يحمي الانقسام والسلطة الغالبة، وفي ليبيا تدعم طهران تنظيم القاعدة من جانب وتمد طوق النجاة للقذافي من جانب آخر لإدامة الفوضى في المنطقة لأن مصالحها تتطلب ذلك، ومفتاح كل هؤلاء في طهران التي تحاول أيضا تفكيك المجتمعات السنية وتهدد استقرارها.