الطبيب والسباك
هل تحولت الطبابة إلى سباكة أم السباكة إلى طبابة؟ قد يبدو من الصعب التفريق بين الظاهرتين، بعد أن كبرت المسافات بين طبيب اليوم وطبيب أيام زمان. فسابقا كانت المعادلة تأخذ اتجاه أن الطبيب يعالج المريض وليس المرض كما يحصل حاليا. فالأطباء كانوا يلقبون أيضا بالحكماء مثل، ابن رشد وابن سينا، فهم كانوا يدرسون العلوم الشاملة وليس التخصصية. كان معظم الأطباء يجمع بين الفلسفة والشعر والهندسة والرسم والتخطيط. أما اليوم فيتم التعامل مع جسم الإنسان كآلة، فإذا تعرض جزء منها للعطب يتم أما استئصاله وإما استبداله أو تلميعه أو تقشيره أو شفطه، وينتشر أطباء السباكة أصحاب الحلول الترقيعية السريعة عندما يتكاسل الناس عن مراقبة أحوالهم الصحية وتعهيد هذا الدور إلى العقاقير والأجهزة والمشافي. ولم توفر شركات الأدوية والأجهزة الطبية أية وسيلة لنشر بضائعها واستخدمت حتى الدراما التلفزيونية. ومن المستغرب أن تنتشر ظاهرة المسلسلات الطبية وإن كان أشهرها المسلسل الهوليوودي الشهير ER، الذي كان من أبطاله جورج كلوني. المسلسل برع في تقديم المستشفى كتجربة مسلية، فهو يحتوي على كل الأجهزة التشخيصية والتنظرية والأطقم الطبية المتعاونة، بغرض تصوير المستشفيات كمنتجعات صحية لا يشعر فيها المرء بالألم. بحيث يتم التركيز على الأجهزة والحقن وأن الطبيب سيتحمل مسؤوليات العلاج بدلا من أن يتم التركيز على الوقاية والحمية وتجنيب الناس تجربة مرارة المرض وقساوة الوجع. وتتحول العملية تدريجيا إلى تدريب الناس لأن يكونوا كالرجال الآليين يجب ألا يتسامحوا مع أية أعطاب أو اختلالات، وأن ينظروا إلى أجسامهم كأنها ورشات للسباكة من توزيع أسلاك وتركيب صمامات وشفط شحوم وتزييت مفاصل.
الأطباء قيمون جدا لأنهم سوق مستهدف من قبل الشركات الدوائية. ولذلك يجب أن يكونوا من ذوي القدرات الإبداعية والخلاقة، لذلك يواجهون الصعوبات في امتحانات قبول المدارس الطبية. كما يتم تدريبهم على أنماط تفكير تخطيطية بالغة الصرامة. فسمعة الطبيب ضرورية في ترويج الأدوية والعلاجات الجراحية والوصفات التركيبية. وحتى الشركات الغذائية ومراكز الأبحاث الاستهلاكية تدعم الجهود الطبية للترويج لبضائعها أو تقاريرها. ولا يخفى على أحد مقدار التأثير الذي يطول الأغلبية عند سماع نشرة طبية تلفزيونية أو صحفية تحذر من أو تشجع بعض المأكولات. وحتى نشرات الحميات الغذائية يتم إقرارها لتناسب أحوال المزارع العالمية إن كان على مستوى لحوم الدواجن أو الأبقار والألبان والأجبان وحبوب الذرة والشوفان أو الفواكه والخضار الاستوائية. وصارت موضة الحمية الغذائية كصرعات الأزياء، فأحيانا يروج للأناناس كمذيب للشحوم وترتفع أسهم الجريب فروت وأن الكاكاو يزيل الاكتئاب ويهدئ الأعصاب، مرورا بصرعة الأكلات البروتينية التي تروج لقائمة كبيرة من الأغذية التي تنتجها شركات اللحوم العالمية. وتدخل السمسرة الدوائية في الحياة الطبية؛ إن كان على مستوى الأدوية أو الأجهزة أو المعدات. وكما تجعل الشركات الدوائية من الصيادلة بائعين أو مروجين للعقاقير، تورط تلك الشركات كثيرا من الأطباء وعبر مندوبيها لترويج بضائعها الدوائية، حيث يزداد الاعتماد على مندوبي الأدوية الجائلين ويتم التعامل معهم كمصادر للمعلومات السريعة والسهلة لملء الوصفة الطبية.