بلطجية الأسواق
من الواضح أن الأحداث السياسية بين الحين والآخر تفرز بعض التعابير أو الكلمات التي إما أن تكون مغمورة أو لم نسمعها من قبل، لتصف فئة من البشر، خصوصاً في الذم، كنوعٍ من التقوّي لتأكيد علو كعب مُطلقها على هذه الفئة. فقد سمعنا ''علوج'' في حرب العراق وراجت وقتها هذه الكلمة. والآن ''البلطجية'' التي انطلقت من جمهورية مصر حتى إنك لا تكاد أن تنفك من حوارٍ سياسيٍّ أو مقابلةٍ إلا وربما أطلقها أحد المتحاورين. ولن أعرّف ''البلطجية'' ومصدرها ككلمة؛ فقد طرحها غيري سواء من الذين يتعاطون المواضيع السياسية أو غيرهم من أهل الكلام واللغة. وبكل الأحوال البلطجية في مفهومٍ شموليٍّ هم فئة خارجين عن القانون يهدفون بقصد إلى إبطال أعمال الإصلاح للفئة التي تحمل شعاره. ومثلما هي في ميادين السياسة يُوجد في الأسواق من يمكن تصنيفهم بذلك تقريباً، وإن كان هناك ربما اختلاف في المنطلقات والمقاصد غير أن المحصلة النهائية تحقيق مصالح شخصية بلا شك ستفسد منهجية السوق في حالة استمرار مثل هؤلاء في التعامل بهذه الطريقة. فهم فئةٌ أو فئاتٌ من المتعاملين في ذلك السوق أياً كان ذلك السوق سواء كان سوق أسهم أو سوق عقار أو سوق تجارة تجزئة أو غيرها وما إلى ذلك. وهم بذلك يستغلون ما نسميه في العلوم المالية ''حالة عدم توازن'' في السوق لسببٍ تشريعيٍّ أو هيكليٍّ أو ربما ظرفيٍّ ووقتيٍّ خلقته بعض المعطيات. والاستغلال هنا ربما يأتي بطرقٍ شبه نظامية مستفيدين من الثغرات أو متسللين لواذاً للوصول إلى تحقيق تلك المطامع والمصالح الشخصية.
ولقد شهدنا مثلا في سوق الأسهم في حقبٍ زمنيةٍ مختلفة كيف هي آثار الدمار الذي خلّفه عدم التعاطي مع السوق بمنهجيةٍ وطقوس السوق الكفء. وليس الأمر مقتصراً على سوق الأسهم، فكل الأسواق إما أن صار لها أو سيصير لها مثل هذه التجارب إذا ما وُجد مَن يتعامل في السوق بغير مهنية. ولا أريد أن أظن إلا خيراً - إن شاء الله - في كل مَن تعامل أو سيتعامل مع الأسواق على اختلاف تعريفاتها إلا أن الهيكلية في بعض الأحيان تعطي مجالاً ربما بغير قصدٍ لتكوين سوق تغلب عليه منهجية غير صحية فتؤول الأسواق إلى أن تكون عامل هدم للتنمية الاقتصادية بدلا من تحقيق الهدف أصلا من وجودها، وهو تعضيد وخلق بيئة نحو تنمية مستدامة.
وفي الاقتصاد الإسلامي ما يدلل على أهمية أن يكون المتعاملون في السوق ذوي مهنيةٍ ومعرفةٍ بالتعاملات لسوقهم ومطبقين أسساً تجارية ومبادئ مهمة لصحة الاقتصاد كمحاربة الغش والاحتكار وغيرها. ومما استوقفني في هذا الشأن أنه يذكر في الأثر أن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضرب أحد المتعاملين بالدرة، وقال له بما معناه لا تخرب أسواقنا لكون ذلك المتعامل الذي رآه عمر - رضي الله عنه - لا يعرف كيف يُحسن التعامل مع السوق. وهذا أحد الأدلة على أن الذي لا يعرف التعامل مع السوق يجب ألا يدخل فيه لأنه سيصير معول هدم نحو فعاليته؛ حتى وإن كان بغير قصد. إن الأنظمة والتشريعات واكتمالها والأهم تطبيقها بكل جدية هي الضامن الوحيد، بعد توفيق الله، نحو القضاء على مَن يمكن أن يطلق عليهم بلطجية الأسواق، وبالتالي استقامتها وتفعيل أدوارها لتكون هي قنوات التنمية وسر استدامتها.