الخُمس .. ورقة إيرانية في خدمة التدخل الطائفي

لا شك أنّ النظام الإيراني منذ قيامه ولحد الآن كان ولا يزال يستغل الورقة الطائفية خدمة لمصالحه ولبسط نفوذه في المنطقة العربية، وأنّ المؤسسة الدينية الحاكمة في إيران هي التي تقوم برسم السياسة الاستراتيجية الإيرانية، حيث تضع نصب أعينها الورقة الطائفية عبر زرع عناصر موالية لها والعزف على الوتر الطائفي في البلدان العربية بغرض التوسع الاستعماري لإيران في بلدان الخليج العربي والعراق على وجه التحديد والعالم العربي بشكل عام، وهذا الأمر يشكل حجر الزاوية في رسم أي خريطة طويلة الأمد من قبل إيران، وإذا ما عرفنا أنّ شرعنة هذا التدخل الإيراني تأتي عبر تشريعات دينية شيعية، سيصبح الأمر أكثر تعقيداً، فنظام ولي الفقيه يستخدم ورقة الفتاوى لجمع أموال الخُمس التي يحصل عليها طبقاً لضوابط معينة لغرض بسط هيمنته الثيوقراطية في العالم العربي.
هناك مبالغ ضخمة يتم تجميعها من قبل الشيعة في دول الخليج العربي وتدفع باتجاه قم وطهران خدمة للمشروع الاستراتيجي الإيراني في المنطقة، حيث يؤكد الباحثون أن الشيعة في إيران استولوا على مئات الملايين من الدولارات من أموال الأخماس والزكوات والتبرعات من الشيعة في الخليج، فالأموال تذهب إلى جيوب علماء الدين في إيران، ويتهم البعض علماء دين شيعة خليجيين بالتواطؤ مع مؤسسات دينية في تلك الدول لامتصاص أموال الشيعة هناك ومن ثم إرسالها لجهات إيرانية، والعملية تتم أيضاً بصورة معكوسة، حيث ترسل طهران أموالاً لحلفائها الشيعة في المنطقة مستغلة الخمس وتجميع أموال الأضرحة الشيعية في إيران والعراق لتذهب هذه الأموال بالنهاية إلى أحزاب موالية مثل حزب الله في لبنان وغيره خدمة للمشروع الاستراتيجي الإيراني في المنطقة.
نظام الجمهورية الإسلامية يستخدم مصادر التمويل التي تصلهم بصورة خُمس من المناطق العربية التي يقطنها الشيعة خدمة لمخططاته، فيصدر فتاوى استناداً إلى الظروف لخدمة هذه المخططات، فقد رأى النظام الإيراني في دخول درع الجزيرة للبحرين أنه موجه لمصالحة بعيدة المدى في هذا البلد، من هنا عمل على تغيير مسار تجميع الخُمس من قم نحو أنصاره في البحرين، فقد أصدرت المراجع الشيعية بعد دخول القوات العربية البحرين عدة فتاوى، كان بعضها سياسيا والآخر ماليا، لتغطية الصراع الدائر بين دول الخليج وإيران، فحاولت طهران ما يمكن فعله لكي تمد التحرك الصفوي الموالي لها بالأموال اللازمة للاستمرار بالاحتجاج حتى إسقاط النظام البحريني واستبداله بنظام موالٍ لها، وبعدما عجزت عن إيصال المال لهم أوعزت للمراجع الشيعية في الأقطار العربية بإصدار فتاوى عدة في مجملها تأكيد على النهج الإيراني في استغلال موارد الخُمس وتغيير مسارها من قم نحو البحرين، ففي هذا الإطار أصدر ''أية الله سيد محمد تقي مدرسي'' وغيره من مراجع الدين الشيعة فتاوى لمقلديهم تجيز لهم إنفاق أموال الخُمس في البحرين من أجل دعم المحتجين.
كما تشير التقارير إلى أن أموالاً ضخمة يتلقاها وكلاء المراجع في المناطق الشيعية في السعودية والكويت والبحرين والإمارات، حيث يتم تدويرها نحو قم وطهران وفي النهاية تدخل خزانة أضرحة الأئمة الشيعية في مشهد وقم وفي النهاية فإن المسؤول عن هذه الأضرحة هم مندوبون من قبل ولي الفقيه، وإذا ما فشلت عملية التدوير ستعمل الوكالات التابعة للنظام الإيراني في الخارج مثل وكالة الشؤون الدولية المسؤولة عن المستشارين الثقافيين في السفارات الإيرانية والمراكز الثقافية الإيرانية في الخارج وهي مسؤولة عن دعم الجماعات الشيعية المتطرفة في الدول العربية، وتصل أموال الخُمس التي تم تجميعه من الشيعة في البلدان العربية لتقدم للمعارضة، وبالتالي بواسطة هذا المال يتم استقطاب جماعات موالية ويدر ذلك في النهاية نفعاً مادياً ومعنوياً جماً على نظام ولي الفقيه.
أموال الخُمس دائماً تثير قضايا فساد في إيران إضافة إلى الشكوك في استغلالها من قبل النظام الإيراني خدمة لأجندته في المنطقة العربية، فقد تحولت قضية الفساد ضد نجل متولي مرقد الإمام الثامن لدى الشيعة ناصر طبسي نجل أية الله واعظ طبسي إلى أكبر عملية فساد عرفتها البلاد فقد وزع طبسي ملايين الدولارات كرشا على مجموعات داخل النظام الإيراني، حيث شكلت المحاكم الإيرانية قضية فساد ضده عرفت باسم ''المكاسب'' و''مؤسسة كوثر الإنمائية'' و''مؤسسة الإمام الرضا'' تم اتهامه بقضايا اختلاس تقدر بمليارات الدولارات لكن بسبب خوف النظام من إفشاء أسرار المحاكمة وتواطؤ قيادات سياسية في الحرس وبسبب تعيين والده من قبل المرشد لهذا المنصب تم التستر على قضية الفساد، إضافة إلى ذلك تثير حياة البذخ لرجال الدين في إيران سخط الجماهير وبات يلقب معظمهم بـ ''الملا المليونير'' بسبب هذا الفساد.
ففي الوقت الراهن من الثورات العربية هرعت السلطات الإيرانية في مسعى محموم لاستثمار الوضع لمصادرة هذا الواقع فصدرت عدة تصريحات من القادة الإيرانيين تشير إلى أن ما يحدث هو انعكاس لثورة إيران خدمة لمشروعها، فيرى الدكتور حسين موسوي (رئيس مركز الشرق الأوسط للأبحاث العلمية والدراسات الاستراتيجية)، أنّ الاستراتيجية الإيرانية حيال الثورات العربية عبرت عن نفسها في خطاب المرشد الإيراني علي خامنئي خلال خطبة أعياد النيروز والتي أكد فيها دعمه لما سماه ''حق تقرير المصير للشعوب العربية بوجه أنظمتها''، فحق تقرير المصير بالمنظور الإيراني يفسر على أنه التصويت بـ ''نعم'' من قبل الشعوب العربية للتدخل الإيراني، فيستخدم النظام الإيراني كلمة الشعوب العربية للتعبير عن الفئة التي هي مرتبطة بمصالحه والتي قام بدعمها في معظم الأقطار العربية سواء كانت هذه الفئة الموالية سنية مثل ''حماس'' والإخوان المسلمين وحزب العمل الإسلامي، أو شيعية مثل حزب الله وحركة أمل في لبنان وحزب الدعوة والمجلس الأعلى في العراق وحركات وأحزاب وقوى موالية له في البحرين والسعودية والكويت وبقية الدول العربية.
روجت الاستراتيجية الإيرانية ودعمت بكل ما تملك الاحتجاجات التي شهدتها البحرين، فهذا الموقف الإيراني عبارة عن محاولة لتصدير الثورة للمنطقة العربية من منطلق الازدواجية حيال ما يجري في المنطقة العربية، فلم يتوقف الإيرانيون عند هذا الحد، فيرى محمد علي الحسيني رجل الدين الشيعي اللبناني أنه لم تكن العلاقات العربية - الإيرانية في يوم من الأيام طبيعية، بل كانت على الدوام علاقة صراع ونزاع، ثم يشير إلى أن طهران بدأت باكراً بتأسيس حركات وميليشيات وأحزاب في العراق لتكون أدواتها في تنفيذ مخططاتها الرامية إلى زعزعة أمن واستقرار هذا البلد، ومن أبرز تلك الحركات المجلس الأعلى للثورة الإسلامية وجناحه العسكري (فيلق بدر) رغم أنها اخترقت معظم الأحزاب الشيعية العراقية الأخرى وجعلتها بصورة أو بأخرى خاضعة لنفوذها.
يرى البعض من المراقبين للشأن الإيراني أنّ التوجه الإيراني حيال العرب يترسخ في الاستراتيجية التي تقول ''اعترض وطالب، خذ واعترض أكثر''، وهذا نجح بالفعل لحد هذه اللحظة في التغلغل وبسط هيمنة النظام الإيراني في الوطن العربي. لكن رغم ذلك يرى محمد مصطفى العمراني أنّ الثورة الإيرانية فشلت في أن تصبح نموذجا يقتدى به العرب لسقوطها في فخ المذهبية الضيقة وتبنيها تصدير فكر الثورة الإيرانية القائم على المذهب الجعفري ''الاثنا عشري'' ومضايقتها إن لم نقل حربها على العرب السنة في الأحواز وغيرها وتبنيها سياسة الاستفزاز لجيرانها ولعبها الخطير بورقة الأقليات الشيعية في بعض بلدان الخليج. لكنها ما زالت تصر على نظريتها الآنفة الذكر.
نشر مركز ''بلفر'' للعلوم والشؤون الدولية بحثاً حول الثورات العربية والدور الإيراني المرتقب فيها يؤكد فيه أنّ ما تشهده المنطقة من تطورات نتيجة الثورات الشعبية العارمة التي أطلق عليها ''الربيع العربي''، سيؤثر لا محالة على المصالح القومية العليا لإيران، وذلك التأثير ــــ سلباً أو إيجاباً ـــ يعتمد على الموقف الإيراني من هذه الثورات وكيفية تعامله معها في المستقبل. فقد كان التعامل الإيراني مع الثورات لحد هذه اللحظة بتعامل براجماتي، حيث عارض التدخل الخليجي في البحرين لكنه لم يقم بأي عمل يتنافى ومصالحه القومية، وهذا الأمر ينطبق على ما يجري في مصر وليبيا والأردن واليمن وتونس وسورية، فقد وضع النظام الإيراني مصلحته القومية فوق كل الاعتبارات في التعامل مع الثورات العربية، وإن النظام الإيراني سوف لن يتدخل عسكرياً مهما حدث، لأن ذلك من شأنه أن يعطي ذريعة لخصومه للانقضاض عليه، لكنه لن يتوانى عن العبث الأمني في هذه الدول.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي