ماذا بعد عجز اليونان عن سداد ديونها؟

إن الحكومة اليونانية، ومعها المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي، تصر على إنكار ما تراه الأسواق جلياً واضحا: ألا وهو أن اليونان ستعجز في نهاية المطاف عن سداد ديونها المستحقة لدائنيها في القطاعين الخاص والعام. ويبدو أن الساسة يفضلون تأجيل ما لا مفر منه بتوجيه المال العام إلى أماكن لم يعد المال الخاص راغباً في الذهاب إليها، لأن هذا من شأنه أن يسمح للدائنين بالاستمرار في تبني وهم مفاده أن القيمة الدفترية للسندات اليونانية التي يحملونها لا تحتاج إلى تخفيض. وهذا بدوره يجنبهم الحاجة إلى فرض المتطلبات الخاصة بزيادة رؤوس أموال البنوك.
ولكن على الرغم من انخفاض أسعار الفائدة على القروض الإضافية التي ستحصل عليها اليونان قريباً من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، فإن مستوى الديون اليونانية سيرتفع بسرعة إلى مستويات غير قابلة للاستمرار. ولهذا السبب فإن أسعار الفائدة على السندات اليونانية التي تمتلكها جهات خاصة، وأسعار سندات مقايضة العجز عن سداد الائتمان، تشير إلى تخلف كبير عن سداد الديون قادم لا محالة.
والواقع أن التخلف الكبير عن سداد الديون، إلى جانب خفض بالغ الضخامة ومستدام في عجز الموازنة السنوي، بات أمراً ضرورياً حتى تتمكن اليونان من استعادة استدامتها المالية. وبشكل أكثر تحديدا، فحتى إذا انخفضت ديون البلاد إلى 60 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي بفضل التخلف عن السداد، فإن اليونان ستظل مضطرة إلى خفض العجز في موازنتها السنوية من 10 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي حالياً، إلى نحو 3 في المائة إذا كان لها أن تتمكن من منع نسبة الدين من الارتفاع مرة أخرى. وفي هذه الحالة، يتعين على اليونان أن تكون قادرة على تمويل عجزها الحكومي السنوي في المستقبل بالاستعانة بالمصادر المحلية وحدها.
ولكن الاستدامة المالية ليست علاجاً للعجز التجاري الضخم المزمن الذي تعانيه اليونان. فقد تجاوزت واردات اليونان الآن صادرتها بما يعادل أكثر من 4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، ويُعَد هذا أضخم عجز تجاري بين البلدان الأعضاء في منطقة اليورو. وإذا ظلت هذه الفجوة التجارية قائمة فإن اليونان ستضطر إلى اقتراض المبلغ بالكامل من مقرضين أجانب بشكل سنوي في المستقبل، حتى ولو تسنى لها بعد التخلف عن سداد الديون تمويل عجز الموازنة من خلال الاقتراض من الداخل.
إن سد أو تضييق هذه الفجوة التجارية من دون التأثير سلباً في النشاط الاقتصادي، وتشغيل العمالة في اليونان، يتطلب منها أن تزيد من صادراتها، وأن تقلل من وارداتها. وهذا بدوره يتطلب جعل السلع والخدمات اليونانية أكثر تنافسية مقارنة بسلع وخدمات الشركاء التجاريين للبلاد. وبوسع أي دولة لديها عملة مرنة أن تحقق هذا الهدف بالسماح لسعر صرف عملتها بالانخفاض، ولكن عضوية اليونان في منطقة اليورو تجعل هذا الخيار مستحيلا.
لذا فإن اليونان تواجه مهمة بالغة الصعوبة تتمثل في ضرورة إيجاد وسيلة أخرى لخفض أسعار سلعها وخدماتها نسبة إلى مثيلاتها من السلع والخدمات في بلدان أخرى، أي أنها ستضطر إلى خفض أجور ورواتب الموظفين العاملين في القطاع الخاص اليوناني.
ولكن حتى لو تسنى لليونان تحقيق هذا فإنه لن يساعد إلا في سد الفجوة التجارية ما دامت الأسعار اليونانية تنافسية. ومن أجل الحفاظ على التنافسية في الأسعار فإن الفجوة بين نمو الأجور اليونانية والارتفاع في الإنتاجية اليونانية ـ بمعنى الناتج عن ساعة عمل كل موظف ـ لا يبغي لها أن تكون أعظم من الفجوة في بلدان منطقة اليورو الأخرى.
لن تكون المهمة سهلة. فقد نما العجز التجاري في اليونان على مدى العقد الماضي لأن الأسعار اليونانية كانت ترتفع بمعدلات أسرع من مثيلاتها لدى شركاء اليونان التجاريين. ولقد حدث هذا لأن الأجور كانت ترتفع بمعدلات أسرع في اليونان نسبة إلى الإنتاجية، مقارنة ببلدان منطقة اليورو الأخرى.
ولكي ندرك كم سيكون من الصعب بالنسبة لليونان أن تظل محتفظة بميزتها التنافسية، فلنفترض أن بقية بلدان منطقة اليورو تجني مكاسب إنتاجية سنوية تبلغ 2 في المائة، في حين تقيد السياسة النقدية تضخم الأسعار السنوي بمستوى 2 في المائة. في هذه الحالة يصبح من الممكن أن ترتفع الأجور في بقية منطقة اليورو بنسبة 4 في المائة سنويا. ولكن إذا ارتفعت الإنتاجية في اليونان بنسبة 1 في المائة فإن الزيادة في الأجور في اليونان من غير الممكن أن تتجاوز 3 في المائة. وأي معدل أعلى من شأنه أن يدفع الأسعار اليونانية إلى الارتفاع بسرعة أكبر من مثيلاتها لدى شركاء اليونان التجاريين.
وهذا يعني أن اليونان تواجه تحدياً ثلاثيا: التحدي المالي المتمثل في خفض الديون الحكومية والعجز في المستقبل؛ وتحدي مستوى الأسعار المتمثل في خفض الأسعار في الدرجة الكافية لسد الفجوة التجارية الحالية؛ وتحدي إنتاجية الأجور المتمثل في محاولة الإبقاء على معدل نمو الأجور في المستقبل أدنى من المتوسط في منطقة اليورو أو رفع معدل نمو الإنتاجية في اليونان.
منذ اندلعت الأزمة اليونانية، أظهرت البلاد عجزها عن حل مشكلاتها، كما كان صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية يأملان. والواقع أن البلدان التي واجهت مشكلات مماثلة في أجزاء أخرى من العالم كانت تلجأ دوماً إلى الجمع بين التقليص المالي وخفض قيمة العملة، وهو حل مستبعد في حالة اليونان بسبب عضويتها في الاتحاد النقدي.
إن الانسحاب المؤقت من منطقة اليورو من شأنه أن يسمح لليونان بتحقيق انحدار في مستوى الأسعار نسبة إلى بلدان منطقة اليورو الأخرى، وبالتالي تيسير عملية ضبط مستوى الأسعار النسبية إن لم يكن في الإمكان الحد من زيادة الأجور. ولكن معاهدة ماستريخت تحظر صراحة على أي دولة في منطقة اليورو ترك عملة اليورو، ولكنها لا تتحدث عن الانسحاب المؤقت (وبالتالي فإنها لا تمنعه). والواقع أن الوقت قد حان لكي تبدأ اليونان، وغيرها من دول منطقة اليورو، والمفوضية الأوروبية، التفكير بجدية في هذا الخيار.

خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي