أين نقف من التعاملات الإلكترونية الحكومية؟
حين تقف الحكومات بشكلها وإدارتها الكلاسيكية تراوح مكانها تتقهقر إلى الخلف، وحين تحاول أن ترتقي بأساليبها لمواجهة متطلبات التغيير تقف مكانها، أما إذا أرادت أن تتقدم إلى الأمام فمن الضروري وقتها إعادة النظر جذريا في نموذجها وابتكار نموذج آخر جديد تماما.
وفي هذا الصدد تبرز البنية التحتية التقنية للتعاملات الإلكترونية الحكومية باعتبارها عاملا مهما وليس كافيا لنجاح رحلة الدولة نحو التحول إلى التعاملات الإلكترونية الحكومية.
والبنية التحتية تلك على أهميتها لا تشكّل العامل الرئيس لضمان نجاح النموذج الحكومي الجديد، الذي لا يقف مكانه، الذي لا يواجه التغيير بأدوات ماضوية، والذي يعيد النظر جذريا في بنيته الأساسية، هذا النموذج يأتي في المقام الثاني، خصوصا في مراحل التحول الأولى من البيئة الورقية إلى البيئة اللاورقية ثم الإلكترونية، ليأتي على رأس أولويات أي مشروع ناجح للتعاملات الإلكترونية الحكومية عملية تغيير العقليات والسلوكيات الإدارية لرجالات الدولة ومسؤوليها لإقناعهم بالتغيير والحصول على دعمهم والتزامهم بالمشروع، ليدرك أمثال هؤلاء مدى أهمية وتأثير التحول إلى التعاملات الإلكترونية الحكومية في الوضع العام الداخلي والخارجي للبلاد.
وإذا كان بعض الأفراد لا يلتزم بالسلوك السليم والمطلوب في مراحل التحول، يأتي دور التدريب كوسيلة من وسائل الإدارة وعنصر أساس في تغيير السلوك بشكل إيجابي، من خلال إكسابهم المعارف والمهارات التقنية والإدارية وإكسابه المرونة الكافية لتقبل إدارة التغيير وليكون عضوا فاعلا إيجابيا داخلها، يسهم في إحداث تغيير استراتيجي وتشغيلي في الأنظمة المادية للكيان الحكومي مثل الهيكل الإداري والموظفين والأنظمة غير المادية للكيان الحكومية مثل قيم Values أو ثقافة Culture ذلك الكيان.
ولا شك أن إدراك أهمية التحول إلى النموذج الجديد للعمل الحكومي يتطلب تعديل الأجندة الحكومية من أجل إضافة رؤية التعاملات الإلكترونية الحكومية على أجندات الدولة، ويحتاج رجال الدولة وقيادات المجتمع الصناعي والاقتصادي والشعبي إلى أن يعملوا على تسليح أنفسهم بالحد الأدنى المطلوب من المعرفة التقنية التي تصب في هذه البوتقة، بحيث تحتوي الأجندة الحكومية على رؤية واضحة لتعاملات إلكترونية حكومية قابلة للتطبيق وطموحة في آن معا، مع الأخذ في الاعتبار أن القفز على المراحل اللازمة لهذا التحول وعدم الواقعية في تحديد الأهداف أو في التوجه نحو تحقيقها قد يؤدي إلى فشل المشروع برمته، وبالتالي فقدان الثقة العامة في جدوى التحول الحكومي.
وينطوي مفهوم التعاملات الإلكترونية الحكومية في جوهره على عدد من المبادئ والتقنيات والإجراءات التي تتعلق بإدارة العمل العام، وتهدف إلى تطوير علاقة الحكومة بمحيطها؛ ما يفرز مشكلة التوافقية بين الجهات الحكومية بعضها بعضا من جهة، وبينها وبين الجهة المنوط بها التحفيز والتمكين للتحول إلى التعاملات الإلكترونية الحكومية من جهة أخرى، وإذا لم تستطع الحكومات في ثوبها الحتمي الجديد أن تستجيب لتحدي التوافقية هذا فمن الممكن حينها أن يظهر المزيد والمزيد من الجزر المعلوماتية Information Islands داخل الدولة.
وإلى الآن ينقص هذا التناول اكتمال الرؤية ببيان الوجه الآخر للعملة أو للتحدي في تغيير عقلية العاملين على التحول نحو التعاملات الإلكترونية الحكومية، وهو بيان موقف المتعاملين مع هذه التعاملات؛ فعلى سبيل المثال كيف تقنع صاحب المعاملة أنه يستطيع إجراءها من بيته؟ وكيف تقنعه بسلامة الإجراءات؟ وكيف تقنعه بأن يترك فكرة موظف الشباك ليتعامل مع شاشة باردة لحاسوب لا يعلم عنه شيئا؟ وكيف تقنعه بأن كل ذلك سيكون مجديا في إنهاء معاملته؟ وكلها أسئلة تصب في الاتجاه نفسه، وهو تغيير أنماط التفكير والسلوك نحو أنماط جديدة قابلة للتعامل مع الواقع الإلكتروني والرقمي في آن واحد.
ولا يكفي في هذا الإطار أن نقوم بعملية ''رقمنة'' الحكومة بشكلها الحالي وتقديمها عبر الإنترنت من دون إعادة هندستها إداريا كي تتماشى مع البيئة الإلكترونية؛ لأننا بذلك وبدلا من تسهيل الأمور على المستفيد نكون قد أضفنا بعض التعقيدات على العمل الحكومي، وهذا ما يجب أن يكون الشغل الشاغل لبرنامج مثل برنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية ''يسِّر'' في المملكة، الذي يخطو بالجهات الحكومية كمحفِّز وممكِّن لها خطوات واسعة في رحلة التحول، وإن نجاح أي مشروع للتعاملات الإلكترونية الحكومية ومدى فاعليته يعتمد بشكل رئيس على تبني فرضية مفادها أن المستفيد (المواطن والمقيم وقطاع الأعمال) هو'' محور'' الخدمة ومحرّكها.
ولنعطي مثالا على ذلك؛ عندما يريد المستفيد أن يجري معاملة الاستعلام عن مخالفاته المرورية عبر البوابة الوطنية للتعاملات الإلكترونية الحكومية (سعودي) http://www.saudi.gov.sa؛ فإذا كانت التعاملات الإلكترونية الحكومية في هذه الحالة متمحورة حول الجهاز الإداري أو الوزارة؛ فإن المستفيد سيجد صعوبة في إيجاد الخدمة المطلوبة؛ لأن منفذها Access Point قد يكون عبر وزارة الداخلية أو الأمن العام أو المرور أو أي سلطة أخرى، وقد يحتاج إلى أن يبحث في خدمات العديد من الأجهزة من أجل الوصول إلى مبتغاه، بينما في الحالة الأخرى، حيث تكون الخدمات مقدمة على أساس أن المستفيد هو محور الخدمة - وهذا يشكل حقيقة ما يطبقه برنامج ''يسِّر'' عبر بوابة (سعودي)، حيث يقسم الخدمات إلى أفراد وقطاع أعمال ثم إلى قطاعات، وبالدخول على القطاع المنشود يدخل المستفيد إلى الخدمة وليس إلى الإدارة أو الجهاز الحكومي، وهذا المستوى من التجرد، الذي يقدم الحكومة على أنها جسم مترابط ونافذة موّحدة، يحتاج إلى مستوى من التكامل المنطقي غير المرئي خلف الأضواء، المتمثل هنا في المملكة في التكامل بين أجهزة وإدارات الدولة التي تتشارك في إجراء خدمة عامة مركّبة عبر قناة التكامل الحكومية إحدى الأذرع الأفقية لبرنامج التعاملات الإلكترونية الحكومية ''يسِّر''، الذي يهدف إلى توفير البنية التحتية المشتركة لتمكين تقديم الخدمات الحكومية الإلكترونية والقيام بعمليات التكامل اللازمة، حيث يعمل كنظام تكاملي وسيط يتاح من خلاله العديد من الخدمات المشتركة بين الجهات الحكومية كخدمات التيقن من هوية المستخدم وأمن المعلومات، وخدمات الدفع والإشعار الإلكتروني، وتبادل البيانات المشتركة بين الجهات الحكومية على مستوى المملكة.
وعلى المستوى العالمي؛ بدأت الحكومات التي قطعت شوطا طويلا في رحلة التعاملات الإلكترونية الحكومية تراجع نماذجها من أجل تحويلها من تعاملات إلكترونية حكومية متمحورة حول الجهاز الحكومي Agency-Centric إلى تعاملات إلكترونية حكومية يكون المواطن لها بمنزلة المحور والهدف والغاية Citizen-Centric ويتواصل معها بشكل آمن وسري من خلال شباك الخدمات الافتراضيOne-Stop shop-Government الذي يشكِّل بالنسبة إليه الوجه الإلكتروني للحكومة ويشكل بالنسبة للحكومة بوابة خدماتها الرئيسة.