حرب الخيار

بعد أن تعالت أصوات النباتيين تنادي بالبعد عن اللحوم والبروتين الحيواني بصفة عامة واللجوء إلى الخضراوات خاصة طبق السلطة الذي يعتمد على الخيار، تلقى هؤلاء جميعاً ضربة موجعة.
لقد دخل الخيار ساحة الوغى، وأصبح هدفاً للإبادة ودخل أتون معركة حامية الوطيس أطرافها حتى الآن دول أوروبا وبالتحديد إسبانيا وألمانيا.
ظهرت بكتيريا قاتلة أطلق عليها الإي كولاي وهاجمت بضراوة مئات الأشخاص ونقلت العشرات إلى مثواهم الأخير، وهي جرثومة متحورة تدير كرات الدم الحمراء وتؤدي إلى تآكل جدار الأوعوية الكلوية فيحدث الفشل الكلوي القاتل. كما أن سمومها - فيما يقوله الأطباء الآن - تصل إلى الجهاز العصبي فتدمره أيضا. إنها وحش مفترس سريع في إيقاع الضحايا، مما جعل أوروبا تهتز بشدة وتقع في براثن مواجهات المصالح بين منتجي الخيار في إسبانيا وآكليه في ألمانيا.
فقد أعلن دانييل باهر وزير الصحة الألماني أنه رغم انحسار موجة الخطر إلا أن هناك حالات موت متوقعة مع ظهور حالات جديدة كل يوم. وقال إن المرض قتل 24 مريضاً غير ألفين و400 بأعراض خطيرة أبرزها نوبات مرضية في الكلى.
من جانبه، وقف ثاباتيرو رئيس وزراء إسبانيا يطالب المستشارة الألمانية ميركل بتعويض المزارعين الإسبان الذين اضطروا إلى إعدام آلاف الأطنان من الخيار بعد الضراوة الإعلامية التي تناولت الموضوع، كما أن الاتحاد الأوروبي اقترح دفع 150 مليون يورو تعويضاً للفلاحين، ولكن وزراء الزراعة قالوا إنه مبلغ ضئيل أمام حجم الخسائر وإن الحد الأدنى للتعويض هو 417 مليون يورو.
وقد تحول الوباء إلى أزمة حينما اكتشفت مدينة هامبورج وهي بالمصادفة مسقط رأس روبرت كوخ الحاصل على جائزة نوبل سنة 1905 لاكتشافه الجراثيم – الجرثومة يوم 23 أيار (مايو) الماضي عندما سقطت سيدة عجوز صريعة بهذه الجرثومة.
ومن هامبورج انطلقت القصة وحدث نفور شامل من خضراوات السلطة وأعلنت مصادر ألمانية أن عدد الضحايا اقترب من ألف غير الموتى، وبناء على ذلك بدأت مطاردة ألمانية للخيار الإسباني في حرب ضروس شملت الإبادة، والأسوأ الحرب الإعلامية التي أثارت أوروبا في كل من إنجلترا وهولندا والدانمارك والمجر والسويد والنرويج.
ورغم أن شرارة الحرب انطلقت من هامبورج إلا أنها وصلت فوراً إلى مدينة كييل عاصمة إقليم شليزويج – هو لشتاين ثم إلى شتوتجارت في الجنوب وإلى فرانكفورت ودوسيلدورف وكولن بعدما احتلت أخبار الخيار صدر نشرات الأخبار. سرعان ما كسد سوق الخضراوات في أنحاء ألمانيا وانتقل إلى أوروبا، حيث عم الحزن الدول الأوروبية الزراعية وعلى رأسها فرنسا وهولندا والدانمارك وإسبانيا، وفي 29 أيار (مايو) أعلنت ألمانيا براءة الخيار الإسباني، وطالبت الهيئات الصحية بالعودة إلى أكل الخيار شريطة غسله بصورة جديدة. بل إن التحاليل المتأنية أثبتت أن هذا المرض يجتاح ألمانيا كل عام، والسبب أنه ينتقل من جرثومة حيوانية إلى النبات عن طريق الأسمدة العضوية أو المياه الملوثة. وليس خفيا على القارئ الكريم الاهتمام الذي يوليه الغرب بالزراعة العضوية التي تعتمد على سماد حيواني عضوي يمكن أن يكون له أثره على الحيوان والنبات ومن ثم الإنسان.
رغم محاولات التهدئة فالحرب مستعرة لأن إسبانيا تتهم ألمانيا بالتشهير مما أنزل بالمزارعين الإسبان خسائر فادحة.
ولأن لكل أزمة آثارها الجانبية فإن الزراعات العضوية هي التي تلقت هذه الضربة، فليس سرا أن الأوروبيين والأمريكيين يقبلون بشدة على شراء المنتجات الزراعية المنتجة عبر الأسمدة العضوية تجنبا للكيماويات التي ثبتت علاقتها بالإصابة بمرض السرطان، بل إن أسعار المنتجات العضوية تفوق بمراحل أسعار المنتجات الزراعية العادية التي يجري استخدام المبيدات والأسمدة الكيماوية فيها، ولا جدال في أن هذه الصدمة لمزارعي المنتجات العضوية ستسفر عن خسائر شديدة.
ورغم أجواء الهدوء التي سادت أوروبا حالياً، إلا أن التحقيقات والأبحاث تجري على قدم وساق للوصول إلى أصل هذه السلالة الجديدة من الإي كولاي.
وتشجع على استمرار الأبحاث الأعداد المتزايدة من المرضى، حيث دخل المستشفى يوم الثلاثاء الماضي نحو 100 من ضحايا الجرثومة.
وقد أصدر جون دالي مفوض الشؤون الصحية في الاتحاد الأوروبي تحذيرا إلى ألمانيا واتهمها بأنها تسرعت في إطلاق صيحات الاستعداد ضد الخيار الإسباني، وقال إن الحملة الإعلامية جاءت فجة وغير مكتملة الأركان وأن النتائج العلمية للأبحاث الألمانية المبدئية جاءت غير دقيقة. وقال للبرلمان الأوروبي إن السلطات الوطنية يجب أن تتروى قبل تقديم معلومات عن مصدر العدوى، خاصة تلك التي لم تثبت بالتحليل البكتريولوجي.
وقد ردت رئيسة لجنة الصحة في برلمان هامبورج بأن قرار حكومتها كان مناسباً مع بداية الأزمة ''لأن الواقع أثبت صدق ما أقدمنا عليه''.
وأضافت أن الاختبارات المعملية أثبتت إيجابية عينتين، كما أن مختبر الحكومة المركزي ومختبر الاتحاد الأوروبي أكدا سلامة ما توصلنا إليه.
وفي نفس الوقت أصدرت العيادات والمستشفيات التي تتولى علاج الحالات الراهنة أن الموقف في تحسن، وهو ما أثلج صدر الدول الأوروبية الأخرى وسائر دول العالم حول محدودية انتشار الوباء. وقد عزز ذلك خروج عدد من المرضى سالمين من المستشفيات. كما أن رئيس المؤسسة المسؤولة عن مراقبة الأمراض صرح بأن الأعداد المصابة تتناقص. وجاء تصريح مهم لمدير إدارة الأوبئة المعدية في منظمة الصحة العالمية قال فيه ''إذا لم تكتشف جذور وأصول العدوى الآن، فإنه من الصعب اكتشافها فيما بعد''.
بعد متابعة معارك الخيار تدور في أذهاننا سلسلة من الأحداث التي ابتلي بها العالم في العقد الماضي. لقد ظهرت إنفلونزا الطيور وخسرت دول فقيرة قطاعاً مهما من ثروتها في الدواجن، وقيل إن الإنذارات والضجة التي صاحبت المرض كانت أكبر من حجمه.
وجاءت إنفلونزا الخنازير، وتم إبادة الخنازير في مصر، وقيل بعدها إنه لم تكن هناك ضرورة لاتخاذ قرار بهذه القوة، حيث ذبح مليون خنزير وتمت إبادة بقاياهم. وقيل إنها كانت إجراءات مشوبة بالفساد السياسي.
وقبل هذا وذاك كانت هناك حمى الوادي المتصدع والحمى القلاعية وكلها أمراض تصيب الأبقار. هذا غير ما توافينا به الأنباء يوما بعد يوم عن ثبوت وجود مواد سامة أو ضارة في هذا الغذاء أو ذاك، إلى جانب أخبار إيجابية عن سلع مثل القهوة والشاي والشوكولاتة. لقد أصبح الإعلام ورقة مهمة في تحريك سوق السلع الغذائية فهو يرسم صوراً وردية لبعض المواد والسلع ويقدم صورة سوداء قاتمة ومخيفة لأشياء أخرى وسلع أخرى.
فهل نلجأ إلى نظرية المؤامرة لنقول إن كل ما ينشر وراءه صاحب غرض، وصاحب مصلحة يشارك في تمويل حملات لصالح سلعة يحتكرها. وإن ذهبنا وراء هذا الرأي فإننا نكون قد تجاهلنا القيمة التنبيهية والتحذيرية للإعلام، الذي يعتبر بمثابة مصابيح السيارة التي تضيء الطريق، وتلفت الانتباه إلى مكامن الخطر ومزالق السقوط.
وها نحن نقبع في أماكننا ننتظر الحرب التالية والوباء القادم عبر سلعة غذائية جديدة، كفانا الله وإياكم شرور الكوارث.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي