حقوق الناس أمام القضاء.. الواقع والمأمول

هناك مشكلة كبيرة ومهمة تتلخص في أن الدعاوى تستغرق وقتاً طويلاً في إجراءات التقاضي، ونتج عن ذلك تعطيل لحقوق الناس والإضرار بمصالحهم. إن المشكلة حقيقية وكبيرة، ولن تحلها زيادة أعداد القضاة أو قيام المحاكم المتخصصة فحسب، إنما يستوجب الأمر التأمل في الموضوع برمته والوقوف على الأسباب الحقيقية التي أدت إلى خلق هذا المناخ.
إن المسألة تتطلب سن الأنظمة التي تقلل من الدعاوى التي تهدف إلى المماطلة وضياع حقوق الناس، فالدعاوى كثيرة ومتعددة الأشكال والأنواع، فمنها ما هو صحيح أي أن رافعيها أصحاب حق، إلا أنهم لم يستطيعوا استيفاء هذا الحق من المدينين، ولذلك أضحى القضاء الخيار الوحيد لهم لحل مشكلاتهم، بينما البعض يلجأ إلى القضاء لاعتقاده أنه صاحب حق - وربما غير ذلك - وفي الجانب الآخر، هناك فئات عدة بعضها يلجأ إلى المحاكم لإقامة دعاوى كيدية وإشغال القضاة والمحاكم، كما أن هناك فئة أُجبرت على الذهاب للمحاكم لأن هناك من ماطلها وامتنع عن إعطائها حقوقها، خاصة أن السنوات التي يستغرقها نظر مثل هذه الدعاوى تساعد أمثال هؤلاء المماطلين على كسب عنصر الوقت وتعطيل حقوق الناس أمداً أطول، ولا سيما أن أقصى ما يمكن أن يصل إليه الأمر هو أن يُلزم المحكوم عليه برد المبلغ المستحق الأصلي فقط دون أن تتبع ذلك أي عقوبات أو غرامات مالية من جراء هذه المماطلة، لذا اكتظت المحاكم بقضايا كثيرة استغلالاً للوضع القائم والنظام المعمول به. ونتج عن هذا الوضع أن أصبح التعقيد والتأخير كله يُنسب للمحاكم والقضاة في تأخير البت في القضايا، وهذا أمر غير صحيح في كثير من الأحوال، لأن الإشكالية القائمة تكمن في الأنظمة المعمول بها التي عفى عليها الزمن ولم تعد مواكبة لإيقاع الحياة المتسارع والتطورات الاقتصادية المتلاحقة.
إذاً ما الحل الذي يرد للقضاء هيبته ومكانته واحترامه والذي يعيد للناس حقوقها دونما تأخير أو مماطلة أو تعطيل، حتى يكون معلوماً للجميع أن ساحة القضاء ليست مجالاً للتلاعب والمماطلة وأن إشغال الناس والقضاة بدعاوى كيدية أو المماطلة في إيفاء الناس حقوقها، أمر غير مقبول تماماً إلى جانب أن له نتائج وآثار عكسية كبيرة. وهنا بعض المقترحات التي قد تسهم وتساعد على حل هذه الإشكالية وذلك على النحو التالي:
أولاً: أنه حان الوقت لإعادة النظر في مبدأ مجانية التقاضي الذي أدى بطريقة أو بأخرى إلى تراكم القضايا المقامة لدى المحاكم وزيادة أعدادها استغلالاً لهذا الوضع، حيث إنه لو كانت هناك رسوم تُفرض على كل دعوى ويسدد المدعي جزءاً منها لدى التقدم بدعواه أمام القضاء، وبعدها يصدر حكم القاضي بإلزام الطرف الخاسر للدعوى ليسدد كامل الرسوم بما فيها ما قد سبق وسدده المدعي، على أن تكون هذه الرسوم مقررة بمنطوق الحكم النهائي على من يخسر الدعوى وأن تكون مشمولة في صك الحكم ذاته، ولو تم ذلك، لأحجم الكثيرون عن إقامة الكثير من الدعاوى الكيدية أو المماطلة في إضاعة حقوق الناس وشغل المحاكم والقضاة بها وهدر طاقاتهم وتبديد وقتهم الثمين وصرفهم عن نظر قضايا أخرى صحيحة ومحقة. لذا لا بد من وضع نظام خاص بالرسوم القضائية وآلية العمل الخاصة به، بحيث يمكن أن تُفرض هذه الرسوم على الدعاوى المدنية والتجارية والإدارية، إلى جانب قيام ما يُسمى بنظام المساعدة القضائية الذي يؤمل صدوره وتعمل به الكثير من دول العالم، الذي يهدف إلى مساعدة ذوي الدخل المحدود الذين لا قبل لهم بتحمل تلك الرسوم. إن مثل هذا الصندوق ستكون له فوائد من بينها أن تُصرف عائداته على تطوير جهاز القضاء وتدريب العاملين فيه، والإسهام في دفع مصروفات المحامين الذين توكلهم المحكمة في حال عدم استطاعة أحد الأطراف الدفاع عن نفسه، وكذا تغطية مصروفات الخبراء وغيره.
ثانياً: الأمر الآخر، أنه حان الوقت لإيجاد تقنين واضح ومحدد لموضوع مصروفات الدعوى، نظراً لأن الدعاوى في يومنا هذا يلزمها مصاريف كبيرة وطائلة من أتعاب محاماة وغيرها، لذا لا يجوز أن يُترك المماطل بأن يرد ما بذمته من حقوق فقط، وهو قد أضرّ بخصمه وأشغل القضاة بمماطلته، إذ لا بد من تحميله كذلك مصروفات الدعوى التي كان سبباً لإقامتها وعليه أن يدفع إلى جانب ذلك أتعاب المحاماة التي أدت بالدائن صاحب الحق للقيام بدفعها لمحامٍ أو أكثر لمقاضاة المدين، على أن تُذكر كل هذه المصروفات في صك الحكم الصادر في ذات الدعوى، وبذا يصبح معلوماً للجميع أن اللجوء للقضاء تكلفته أكبر بكثير من منح الناس حقوقهم في حينه بعيداً عن ساحات المحاكم.
ثالثاً: كما حان الوقت لإيجاد تنظيم واضح ومحدد ومتفق مع الشرع الحنيف للتعويض عن الضرر الحادث بسبب تعطيل حقوق الناس وإطالة أمد التقاضي، وما يستتبع ذلك من تعدد الجلسات وتقديم المذكرات والمرافعات وما يصرف من وقت وجهد ومال في هذا الصدد، إذ لا يجوز أن يحبس المماطل ما عليه من مبالغ بذمته طوال فترة التقاضي التي قد تستغرق عدة سنوات دون أن يعوض صاحب الحق على ما لحقه من ضرر نتيجة لذلك.
رابعاً: لا بد من ضرورة وضع آلية تتفق مع الشريعة الإسلامية أيضاً لتعويض الشخص المتضرر عن مسألة القوة الشرائية للمبلغ المطالب به لدى نشوء الحق وإلى حين صدور الحكم في القضية المنظورة أمام القضاء، ذلك أن الشخص الذي يطالب شخصاً آخر بمبلغ هذا اليوم، لن يكون لذلك المبلغ القوة الشرائية نفسها بعد سنوات عدة، ولا سيما إذا ثبت المطل والقدرة على السداد وانتفاء ضمان السداد، إذ لا يمكن تجاهل عامل التضخم الذي تمر به كل دول العالم، فالشخص الذي يطالب شخصاً آخر بمبلغ مليون ريال على سبيل المثال لن تكون لهذا المبلغ القوة الشرائية نفسها بعد خمس سنوات.
إن ترك مثل هذه المسائل الكبيرة الأهمية لاجتهادات القضاة وحدهم فيه صعوبة ومشقة بالغة عليهم، بل إن هذا يؤدي إلى اختلاف الأحكام وتناقضها، لذلك لا بد من بحث حلول ناجعة لها وعدم تركها على ما هي عليه، الأمر الذي من شأنه مساعدة القضاة على معرفة الإطار الذي يمكنهم العمل من خلاله وتحركهم وفق طريقة واضحة ومحددة المعالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي