حرية الرأي وحرية الـ «سداح مداح»

كل من توجس خيفة على حرية الرأي من الأمر الملكي بتعديل بعض مواد نظام المطبوعات والنشر الصادر في 25/5/1432هـ، هو أحد اثنين، إما أنه قرأ عناوينه أو اطلع عليه من خلال رأي آخرين دون أن يقرأ النص وخاصة الحيثيات ويتفهم الغاية والهدف من هذه التعديلات والتي خصت تغليظ العقوبة على من يتعرض لأحكام الشريعة الإسلامية أو المساس بالسمعة والكرامة أو التجريح والإساءة الشخصية لكل شخص من ذوي الصفة الطبيعية أو الاعتبارية الخاصة أو إثارة النعرات وتشجيع الإجرام إلى آخر ما جاء في الأمر الملكي، وأقام وجهة نظره السلبية حياله على موقف مسبق فيه حساسية لكل ما يمس قضايا النشر والمطبوعات؛ أو أنه بالفعل متضرر من ذلك لكونه فهم حرية الرأي والتعبير على أنها مطلقة بلا ضوابط إلى حد استخدامها للتجريح والإساءة والسخرية الشخصية على حساب النقد والاختلاف الموضوعي للآراء والأفكار والذي هو حق لا نزاع حوله ولا يختلف عليه وضمنه الأمر الملكي، فوجد أن الضوابط الجديدة سوف تقف حائلا بينه وبين ممارسة التهجم الشخصي وتحويل الاختلاف في الرأي لخلاف شخصي تستخدم فيه كل ألوان السخرية والتهكم والانتقاص من ذات الشخص المختلف معه.
أتصور أن صدور هذه التعديلات، وهذا رأي مقتنع به، كان ضروريا لضبط ممارسات حرية الرأي والتعبير وحصرها في جوانب إيجابية تثري الساحة بالرأي والحوار والنقاش الموضوعي، والقضاء على المهاترات والجدل العقيم والذي كثيرا ما يتحول لقضية شخصية لا طائل من ورائها ولا قيمة لها تؤدي إلى إشغال الساحة بخلافات جدلية يغلب عليها الهرج والمرج، فليس خافيا على كل متابع أن ساحتنا الفكرية والإعلامية شهدت خلال هذه المرحلة المهمة والفارقة إتاحة مساحة واسعة غير مسبوقة للرأي والرأي الآخر والنقاش والحوار الواسع، إلا أن هذه المساحة أفرزت وبكل أسف نوعية فهمت الأمر على غير محله وهدفه وغايته، فاعتقدت بأن حرية الرأي والتعبير تعني إطلاق العنان للرغبات والنوازع والمواقف الشخصية البحتة والضيقة وشخصنة الاختلاف في الرأي، وليس للرأي والفكر والنقاش والحوار الموضوعي، ولذا حولوا النقاش والحوار إلى جدل ابتعد عن ضوابط الموضوعية لصراع وتصفية حسابات، ولدينا على ذلك مثل شهير يعرفه الجميع، فقبل عدة أشهر ألقى المفكر السعودي المعروف الدكتور عبد الله الغذامي محاضرة بعنوان ''الليبرالية الموشومة'' انتقد فيها ما يسمى تيار الليبرالية في المملكة، نافيا بتحليل فكري وتاريخي وجود مواصفات الفكر الليبرالي لدى من ينسبون أنفسهم إليه، ومع أهمية ما طرحه الدكتور الغذامي، إلا أن ردة الفعل عليه كانت هي اللافتة، فجل الذين ردوا عليه تركوا مناقشة الموضوع والفكرة ووجهوا سهامهم لشخص الدكتور الغذامي تسفيها وانتقاصا منه تارة بالتخريف وتارة بسعيه لاستعادة الأضواء بعد أن انحسرت عنه، وهو ما ينطبق أيضا على مؤسسات كهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تحظى بنصيب وافر من هذا الإسفاف باسم النقد والتهجم على دورها ورسالتها باستغلال أخطاء بعض المنتسبين إليها.
الخلاصة من ذلك هي في أن كل من اعترض على هذه التعديلات بادعاء المدافع عن حرية الرأي والتعبير، هو في الحقيقة يدافع عن جعل ساحتنا الفكرية والإعلامية ''سداح مداح'' وساحة مفتوحة تطبق فيها نظرية ''الجمهور عاوز كده'' بحثا عن نجومية وشهرة بالجدل الذي يجيده البعض وببراعة وعلى حساب الموضوعية والنقاش والحوار الفكري الراقي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي