تنظيم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد كإطار عام لعملها (1 من 6)
الحمد لله الموفق والهادي إلى سواء السبيل، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وبعد، مذ أن صدر المرسوم الملكي رقم (أ/65) بتاريخ 13/4/1432 هـ الموافق 18/3/2011 بإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد استبشر المواطنون بهذه الخطوة المهمة ضمن الخطوات المتتالية من الإصلاحات المهمة التي تنتهجها القيادة العليا بتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ حفظه الله ـ وذلك لأهمية حماية النزاهة، ومكافحة الفساد الذي استشرى ضرره محليا وإقليميا ودولياً، وقد كان الحديث الذي يدور في المجالس الخاصة حول عمل الهيئة بجانب الجهات الرقابية الأخرى يتركز على استفسارات عديدة وآراء متباينة، حول مدى تحقق الغرض من إنشائها ودورها الحقيقي في مكافحة جرائم الفساد، وهذا أمر عادي يحصل عند إنشاء أي جهاز جديد، وما يتوقع منه من إيجابيات تخدم المصلحة العامة، ومن خلال كل ما سمعته من أحاديث وأسئلة، فقد حفزني ذلك لأن أكتب عن موضوع مكافحة الفساد وفق ما توافر لدي من معلومات، ومن ذلك الاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد الصادرة بقرار مجلس الوزراء رقم (43) بتاريخ 1/2/1428هـ، فكتبت سبع مقالات قصيرة، وفي آخرها امتد الحديث بشكل مختصر عن تنظيم الهيئة الذي صدر بقرار مجلس الوزراء رقم (165) بتاريخ 28/5/1432هـ، وكان ذلك في حدود الفقرات الخمس التي وردت في القرار الذي نشر في الصحف المحلية، وبعد أن توافر لدي كامل التنظيم رأيت أن من واجبي الأدبي أن أستكمل الكتابة عما ورد في التنظيم باعتباره يحدد الإطار العام لعمل الهيئة حتى يستفيد القارئ العزيز.
التنظيم صدر محتويا على 17 مادة، متضمنا على تعريفات في المادة الأولى، وارتباط الهيئة ومركزها النظامي في المادة الثانية، ثم أهداف الهيئة واختصاصاتها في المادة الثالثة، وعلاقة الهيئة بالجهات الأخرى في المادتين الرابعة والخامسة، ورئاسة الهيئة وأجهزتها الإدارية في المواد من السادسة إلى الحادية عشرة، أما ميزانية الهيئة ففي المادة الثانية عشرة، وأخيراً أحكام عامة في المواد من الثالثة عشرة إلى السابعة عشرة.
والتنظيم صدر في فترة وجيزة جداً حسبما نُص عليه في الأمر الملكي بأن يكون خلال ثلاثة أشهر، وفعلا التزم بذلك، إذ صدر بعد شهر ونصف، أي قبل المدة المحددة، ما يدل على الاهتمام بإصداره وفق ما وجه به خادم الحرمين الشريفين ـ حفظه الله ـ وليس هذا فحسب، بل نص في الأمر الملكي على أن يصدر الإطار العام لعمل الهيئة بموجب تنظيم، وليس نظام رغبة في سرعة الإنجاز، فضلا أنه يُعد تنظيماً لمرفق حكومي، والذي يتضمن ترتيبا وتنسيقا للعمل في الهيئة، وعلاقتها بالمصالح والإدارات الحكومية الأخرى، كما أوضحت ذلك في مقالي بعنوان (النظام والتنظيم .. ما الفرق بينهما) المنشور في هذه الصحيفة بتاريخ 3/7/1432 هـ الموافق 5/6/2011، ومثل هذا ليس من المناسب صدوره بموجب (نظام)، وهذا ما تضمنه التوجيه الملكي الكريم الحريص كل الحرص على سرعة الإنجاز.
وبعد ما تقدم ذكره أبدأ بالكلام عما ورد في نصوص التنظيم، فالمادة الأولى ورد بها تعريفات لكلمات وعبارات موجودة في التنظيم بحيث يلتزم بهذه التعريفات بدقة، ولا يتجاوز إلى فهم الكلمة، ومضمون العبارة إلى معان أوسع مما قصد بها في التنظيم، فمثلا كلمة (التنظيم) حيثـما وردت تعني (تنظيم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد)، وكذلك كلمة (الهيئة) يقصد بها (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد)، وكلمة (الرئيس) بأنه (رئيس الهيئة)، وعبارة (الجهات المشمولة باختصاصات الهيئة) تفهم بأن المـقصود بها (الجهات العامة في الدولة والشركات التي تمتلك الدولة نسبة لا تقل عن ''25 في المائة'' من رأسمالها)، وبموجب مفهوم المخالفة أنه لا يدخل في اختصاصات الهيئة الشركات الخاصة بكل أنواعها التي لا تمتلك فيها الدولة نسبة لا تقل عن (25 في المائة)، وهذا التعريف يحول دون أي اجتهادات تؤدي إلى التوسع في الفهم، وأنا قبل اطلاعي على هذا التعريف، فقد كتبت في مقالي السابق المنشور في هذه الصحيفة بتاريخ 26/6/1432هـ الموافق 29/5/2011، أن الجهات غير المشمولة باختصاصات الهيئة قد توضح في اللوائح التنفيذية، لكن بعد هذا التعريف الذي ورد في التنظيم بتحديد الجهات المشمولة باختصاصات الهيئة قد لا يكون هناك ما يوجب تحديد الجهات غير المشمولة باختصاصات الهيئة، إذ يؤخــذ بمصطلح (مفهوم المخالفة) عند الأصوليين لأنه يصعب حصر تلك الجهات وتحديدها.
وفي المادة الثانية الفقرة (1) نُص صراحة على أن الهيئة ترتبط بالملك مباشرة، وذلك كي يكون لها استقلال تام يمكنها من القيام بمسؤولياتها وواجباتها كاملة بحياد واستقلال وجدية دون أي معوقات روتينية وبيروقراطية إدارية مطولة، فضلا عن تمتعـها بالشـخصية الاعتبارية لتكون ذات استقلال تام ـ أيضا ـ من الناحية المالية والإدارية، وهذا يُعد من مقومات ضمان مباشرة عملها ـ كما ذكرت ـ بكل حياد، ودون تأثير من أي جهة كانت، بحيث لا يكون لأحد مهما كان مركزه ووضعه الاجتماعي أن يتدخل في مجال عمل الهيئة.
وفي الفقرة (2) من المادة ذاتها نُص على أن يكون المقر الرئيس للهيئة مدينة الرياض باعتبارها العاصمة، وزيادة في المرونة بالتنظيم الإداري أُعطيت الهيئة الحق في إنشاء فروع أو مكاتب لها داخل المملكة بحسب مقتضيات حاجة العمل، وهذا ـ بلا شك ـ يساعد الهيئة على شمولية أعمالها، وتوسعته بشكل ميسر وسهل نظراً لأهمية وسرية ودقة أعمالها في مجال مكافحة جرائم الفساد التي ليس من السهل كشفها وضبط مرتكبيها، بل خطورة مجابهة مرتكبيها لما قد يحصل من مقاومة، ما يستدعي القرب من موقع ارتكاب الجريمة، والجاهزية التامة القصوى للتصدي لكل مقاومة قد تحصل من المتلبسين بوقائع الجريمة.
ما سبق ذكره بداية الحديث عن تنظيم الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، وفضلت عدم الإطالة المملة للقارئ الكريم، وبشكل يُمكن من القراءة التي تحقق الفهم والاستيعاب، وسأواصل هذا النهج في المقالات القادمة - بإذن الله ومشيئته - فهو ـ جل جلاله ـ الموفق والهادي إلى الطريق القويم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.