هذا الـ «أوكامبو» ومحكمته

أصدرت محكمة الجنايات الدولية أخيرا مذكرة اتهام للعقيد القذافي وابنه ورئيس مخابراته بارتكاب جرائم حرب ضد الشعب الليبي، مطالبة باعتقالهم وتقديمهم للمحاكمة. ولا نجادل هنا في أحقية القذافي ورموز نظامه الهلامي بهذا الاتهام، لكن الجدل هو حول هذه المحكمة ومدعيها العام، فقرارها ضد القذافي يأتي - بقدر مؤسف - في سياق مختل كونه قائما على الكيل بمكيالين، وهو ما نزع عنها المصداقية وأفقدها الاحترام كما في حالة الرئيس السوداني عمر البشير، الذي لم تعر معظم دول العالم اتهاماتها له اهتماما ورفضت الالتزام بها، وآخرها الصين التي استقبلته الأسبوع الماضي، نتيجة لانحراف هذه المحكمة عن مهمتها القضائية الإنسانية وانتقائيتها الفاضحة للقضايا والمتهمين.
مارست هذه المحكمة منذ إنشائها في عام 2002 مهامها في الدول الأضعف وجميعها في إفريقيا، ولم تفتح ملفات أو تقترب من جرائم ذات صلة بقوى كبرى. وما أسهم في فقدانها المصداقية والاحترام أن حالة القذافي ليست حالة شاذة في عالم اليوم، فمنذ بداية العقد الماضي شهد العالم ارتكاب جرائم حرب ضد شعوب لا حول لها ولا قوة، صبت عليها آلة حرب جهنمية خلفت مئات الألوف من القتلى ودمرت فيها دول، ومع هذا لم نر لهذه المحكمة أثرا، ولم نسمع لمدعيها العام صوتا، على الرغم من توافر كل أركان الجريمة ضد الإنسانية والإبادة الجماعية فيها، فمن يجادل في أن ما تعرضت له غزة من عدوان النازية الصهيونية، الذي أدانته تقارير دولية رسمية واصفة إياه بجريمة حرب كما في تقرير (جولدستون)، وما نتج عنه من استشهاد أكثر من 1400 مدني منهم 400 طفل، إضافة إلى حصار هدف إلى تجويع سكان قطاع غزة، أو ما حدث للعراق من غزو أمريكي - بريطاني في عملية قرصنة فاضحة، من خارج إطار "الشرعية الدولية"، وما نتج عنه من مقتل مليون ونصف مليون من المدنيين وتحويل العراق إلى وطن مفكك مدمر، أو حال أفغانستان بعد غزوها بقوات الناتو بقيادة الولايات المتحدة، وما أدى إليه من سقوط مئات ألوف الضحايا من المدنيين والقرويين والبسطاء من الأفغان تحت قذائف وقنابل الناتو الحارقة والمدمرة، ومنه ما زال العراق وما زالت أفغانستان مسرحا دمويا مفتوحا نتيجة لغزو واحتلال غاشم. من يجادل في أنها جرائم حرب وإبادة جماعية ضد الإنسانية مما تتشدق به هذه المحكمة ومدعيها العام ضد القذافي اليوم والرئيس البشير بالأمس القريب، ومع هذا لم تحرك ساكنا ولم يرتفع فيها صوت هذا الـ (أوكامبو) للاقتصاص من مجرمي الحروب كما فعل مع القذافي والبشير .. أليس هذا كيلا بمكيالين يفقدها فعلا كل المصداقية والاحترام والنزاهة؟
الجزء الأكبر من فقدان هذه المحكمة المصداقية يعود إلى دور مدعيها العام المشبوه وممارساته التي تشير إلى أنه ينفذ توجيهات سياسية أكثر منها دوافع قانونية، فما الذي منعه من التصدي إن كان فعلا يعمل وفق قواعد قانونية لجرائم الحرب الصهيونية والأمريكية والبريطانية؟ ولماذا ظهر كالبوم الأسود المشؤوم وسمع العالم صوته ناعقا صاخبا ومتنمرا باتهام الرئيسين البشير والقذافي، بينما كان منزويا وقد بلع لسانه تجاه أولمرت وليفني وباراك وبوش ورامسفيلد وبلير، وثبت أنهم ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية في غزة والعراق وأفغانستان؟
القضية الأساسية والجوهرية هي رفض أن تتحول محكمة دولية للجنايات مهمتها ملاحقة مجرمي الحروب ومرتكبي الإبادة الجماعية من محكمة قانونية ذات صبغة إنسانية دولية، إلى مجرد مؤسسة سياسية ومسيسة تأتمر بجهات سياسية، لا وفق مهامها القانونية الصرفة، فهذه المحكمة بمدعيها العام السمج لا تحظى باحترام ولا قيمة إنسانية بوضعها الحالي حتى ولو صدقت في ملاحقة متهمين من شاكلة القذافي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي