الوجه الآخر للمشهد العربي

للوجه الرائع لهذا المشهد العربي المسمى (الربيع العربي) وجه آخر لا نتمنى أن نراه أو يرى النور، فالمشهد الذي أمامنا مشهد أثار إعجاب العالم واهتمامه وتوجسه أيضا، فمشهد شعوب قررت أن تتقدم لأخذ حريتها وتحطيم أغلال التسلط والخوف منه والاستئثار بالسلطة حتى ظن بأنها مؤبدة لا انعتاق منها وسلب ونهب مقدراتها، بينما هي مطحونة محرومة من أبسط حقوق الحياة الكريمة في وطنها، استطاعت بجسارة بكتلها الضخمة المتراصة والمتواصلة ومتخطية كل أشكال المعارضة داخلية وخارجية بعد ثبوت عقمها وعجزها بل ومتاجرة بعضها بحقوقها أن تحقق المعجزة.
المشهد رائع بلا شك، وروعته تجلت في إعادة الاعتبار للأمة العربية وهيبتها وحتى الخشية منها وهي في قلب العالم ومحور قضاياه وعصب مصالحه، فاستيقاظ هذه الأمة من سباتها الذي طال بكل مخزونها الحضاري والثقافي وحضنه الأهم الديني، يلقي بمحاذير جمة لجهات خارجية لا تريد لهذه الأمة أن تنهض من سباتها، وتتسلم مقاليد أمورها، وتدير شؤونها بلا سلطة مرتهنة لتلك الجهات، ولا خضوع لمن يريد الهيمنة عليها لاستغلال ثرواتها وفرض إرادتها عليها، فتلك القوى الخارجية تخشى من هذا المارد حين يهب وينهض ويستيقظ، ولهذا بدأت المؤامرات تحاك في الخفاء لإحلال المشهد الآخر المختفي حتى الآن والذي تعمل أصابع أجنبية متآمرة لتحويل الربيع العربي لـ (لفوضى عربية) تخطط له من خلف الستار لإشغال الأمة بنفسها حتى لا تستقيم أمورها.
لا نشير هنا لخرافة نظرية المؤامرة سيئة السمعة. ولا نقصد هنا وصم الربيع العربي بأنه نتاج مؤامرة، فالثورات العربية ثورات نقية صافية لم تلوث بأصابع تآمرية، فلا الصهيونية ولا أمريكا ولا حتى الماسونية كما يروج البعض، هي من حركت الشعوب العربية، ولكن كل هذه القوى المعادية للأمة متدربة على إدارة الأزمات، ولذا فسوف تسعى لذلك إن وجدت الفرصة، وسوف تفشل حتما - بإذن الله - ومن ضمن أمانيها في إدارة أزمة المشهد العربي اليوم تحويله من (ربيع) تتفتح فيه زهور الحرية والسيادة والوطنية من خلال إرادة الشعوب المرتكزة على قيم دينية، إلى (خريف) عربي تبذر فيه بذور الفتنة بكل أشكالها عبر تشجيع التشرذم في المطالب الوطنية أولا، ومن ثم إيجاد أرضية لصراعات طائفية وفئوية وقبلية وعرقية من ناحية، ومن ناحية أخرى لإطالة أمد الصدام مع الأنظمة المتمسكة بالسلطة مهما كان الثمن لخلق أزمات أمنية تشجع على الفئوية، واقتصادية تحتاج لعقود طويلة لمعالجتها ولاستنزاف مواردها فيما بعد.
هذا هو الوجه الآخر الذي علينا الحذر من أن ندفع إليه، ونتنبه له بكل الحس الوطني المسؤول، والمسؤولية الكبرى في ذلك تقع على عاتق الأنظمة التي عليها إن أرادت فعلا تجنيب بلدانها وشعوبها الدخول في المجهول والفوضى غير الخلاقة، أن تسارع للتجاوب مع مطالب شعوبها في الإصلاح، وأن تدرك أنه لا عودة للوراء مهما كانت قواها الأمنية قوية وشرسة.
التحذير من الوجه الآخر السلبي لمشهد الربيع العربي لا يعني توقف تطلع الشعوب العربية عن التطلع لمستقبل أكثر إشراقا من خلال إحداث نقلة كبرى بإصلاحات جوهرية وعملية ملموسة، بل جرس إنذار للأنظمة الصلدة التي تنظر للخلف وليس للأمام، بأنها تقود بلدانها إلى أتون فوضى هو ما تريده وتنتظره القوى المعادية المتربصة بهذا الربيع العربي، والعاملة على جعله أداة لشرذمة الدول العربية بما يعرف بتقسيم المقسم، وليس غائبا عن الذاكرة خطط ومؤامرات تقسيم الدول العربية كهدف صهيوني استراتيجي في الصراع مع الأمة العربية، ومنها تخريف (برنارد لويس) الصهيوني المعروف، ويبقى لإنجاح الربيع العربي بصورته المشرقة أن نحذر من المؤامرات التي تقدم اليوم باسم المجتمع الدولي من خلال التدخل (الإنساني) كما تبدى في ليبيا، وأن نعي بأن لعاب الذئاب من حولنا تسيل لالتهام ربيعنا العربي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي