تراجع الدور الإيراني والسوري وبروز المثلث التركي ـــ الخليجي والمصري

كنت أستمع إلى مسؤول أمريكي سابق باندهاش عجيب وهو يؤكد أن طهران ستنفجر، وأن النظام السياسي فيها فقد توازنه ومبرراته كافة، وفقد وسائل الإنعاش الممكنة والمتوقعة، حارب العراق وحاول تصدير الثورة، ووتر علاقاته بدول المنطقة، ودعم المنظمات الراديكالية حزب الله وحماس وتنظيم القاعدة، وتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وفرض سلطته على العراق، واغتصب المرجعية الشيعية فيه، وأسهم في إزاحة الرموز العربية الشيعية من مناصبها، وفرض ولاية دينية وسياسية على الجميع، ويعبث بأمن واستقرار اليمن ومصر ولبنان، ويدعم القذافي والأسد، وينسج علاقات مع جنوب السودان في وقت كان فيه البشير ضيفًا على طهران، وقمع المعارضة، ولا يعترف بحقوق المكونات القومية والدينية فيه، ولعل ما قاله رافسنجاني أخيرًا لصحيفة irdiplomacy.ir من أن السياسة الخارجية الإيرانية أفسدت على إيران علاقتها بالخارج، وأنها لم تعد ملائمة، مستذكرًا فترة رئاسته باعتماد المرونة والانفتاح الخارجي نوعًا من الاعتراف بالمشكلة.
ويضيف هذا المسؤول أن الرئيس الأمريكي بوش عندما وضع إيران على لائحة الشر كان ذلك مبنيًا على معلومات وتقارير أمنية، لكن هناك فرقًا بين ما يجري وبين منطق المصالح وحساباتها الاستراتيجية، فقال: إيران روجت ومن خلال معارضين لها فكرة ومشروع الرهان الشيعي، وأعطت الغرب انطباعًا بأن العداء السياسي والأيديولوجي لأمريكا وإسرائيل ليس إلى نهاية، وأن تدخلها في دول المنطقة بحث عن الاعتراف بالنفوذ والدور الإقليمي. وقال: إن طهران في ذروة العداء والتشنج إزاء واشنطن تعاونت مع أمريكا في أفغانستان، وسمحت للطائرات الأمريكية بالمرور في الأجواء الإيرانية، وساعدت واشنطن للقضاء على حركة طالبان، وقال: كنا ندرك أن هناك رغبة إيرانية في الإطاحة بطالبان وإزالة الأعداء الإقليميين لها، وأن طهران قدمت معلومات ودعمًا وتنسيقًا فيما يتعلق بالعراق، وكانت حاضرة في كل مؤتمرات المعارضة العراقية إبّان نهاية حكم صدام، وعندما دخل الجيش الأمريكي أسهمت في زعزعة استقرار نظام صدام، وأيضًا سمحت للقوات الأمريكية باستخدام أراضيها، والتزمت بالحياد الإيجابي شكلاً، وسلحت المعارضة الشيعية وأمدتها بالمال والسلاح، وبعدها سيطرت على نفط الجنوب، واستحوذت على تجارة العراق، وجعلت الأحزاب الشيعية قوة عسكرية وقوة تجارية وسياسية تأتمر بأمرها، وقال: لم يكن أمام الإدارة الأمريكية سوى التعامل مع الواقع العراقي بكل تفصيلاته، وأن طهران دعمت التطرف السني لعدة أسباب: أولاً؛ لإطالة أمد عدم الاستقرار في العراق، ولزيادة تكلفة الوجود الأمريكي فيه، وثانيًا؛ كي تدفع واشنطن لاحتضان ودعم القوى الشيعية بوصفها قوى في الظاهر داعمة للوجود والتدخل الأمريكي، وتأسيس عقدة تاريخية فاصلة بين السنة والسلطة في العراق، وتدخلت في توزيع العملية السياسية فيه، وفي قانون المحاصصة الطائفي، والسيطرة على كل المفردات السياسية والأمنية فيه، في وقت لم تسمح بوجود مكون سني سياسي أو تنظيمي عسكري كما هو موجود لدى القوى الشيعية، لا، بل حالت دون مشاركة العديد من النخب السنية بحجة علاقتها بالنظام السياسي السابق، وأخيرًا ضغطت بالالتفاف على نتائج العملية الانتخابية التي أفرزت قوة وحضور القائمة العراقية، وهي قائمة ليست سنية بل متداخلة، ويمكن القول إنها قائمة وطنية، ما دفع طهران إلى استهداف رئيس القائمة العراقية إياد علاوي وصالح المطلك وظافر العاني فقط لسبب وحيد هو موقفهم من التدخل الإيراني.

#2#
بالأمس القريب فوجئنا بزيارة قام بها النائب الأول للرئيس الإيراني محمد رضا رحيمي لبغداد تزامنت مع زيارة غير معلنة لجو بايدن نائب الرئيس الأمريكي، وكان جُلُّ حديث رحيمي المعلن خلافًا لما هو معروف طبعًا، فهو بالضد من بقاء القوات الأمريكية في العراق، وتأكيده أن طهران بمقدورها مساعدة العراقيين على صناعة الأمن والاستقرار في العراق، ما أثار حفيظة القوى السياسية العراقية التي أظهرت قلقها من تنامي النفوذ الإيراني وارتماء حكومة نوري المالكي في أحضان إيران وتخطيطها للاستعاضة بعلاقاتها بإيران عن علاقاتها الأمريكية والإقليمية والعربية، لا بل قال رحيمي: نحن على استعداد لبناء العراق وتوفير الأمن وندعم حكومة المالكي، وكان رد المالكي أنه ساعٍ بقوة لتحقيق تكامل اقتصادي وسياسي وشراكة أمنية مع إيران.
بالطبع؛ الزيارة وتصريحات رحيمي وتصريحات المالكي ليست كما يقال محاولة لإثارة حفيظة ومخاوف الأمريكان حال خروجهم من العراق، ولا إثارة حفيظة القوى السياسية المعارضة للتدخل الإيراني، إنما ما أرادته طهران هو تحسين شروط صفقة التفاهم مع واشنطن، وبحسب عضو في مجلس النواب العراقي، فإن لقاءات أمنية جرت أخيرًا بين واشنطن وطهران أبلغت فيه أمريكا إيران أنها ماضية لتحقيق التغيير السياسي في سورية، وأن على إيران ألا تتدخل في الموضوع السوري، وبالطبع يفهم الإيرانيون لغة المصالح والصفقات الرابحة، ويرون أن طالبان كحكومة مدنية قادمة بدعم ورعاية أمريكية، وهذا يقلق طهران، وتعرف أن التغيير في سورية سينعكس سلبا على قوة حكومة المالكي، فأعلن المالكي ربط العراق اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا بإيران، وإيران ترى أن البحرين تتجه لنزع فتيل الأزمة فيها، وأن درع الجزيرة ليس قوات غير شرعية، بل قوة خليجية معترف بها، واستطاعت حماية أمن واستقرار البحرين، ولم تتدخل في تفصيلاته السياسية والاجتماعية، لا، بل أعلنت هذه القوات تراجعها لمواقع عسكرية. وفي الطريق أزمة طاحنة في لبنان على وقع محكمة الحريري ونصر الله وحزب الله وسورية في دائرة الاتهام، ومعلومات مؤكدة تفيد بأن قتلة الحريري في طهران، وأنهم سافروا إليها عبر دمشق، وأن عماد مغنية تمت تصفيته بقرار سوري؛ لأنه المخطط والمشرف على اغتيال الحريري.
بعد اللقاءات السرية قام وزير الدفاع الأمريكي ليون بانيتا، وهو مدير سابق للمخابرات الأمريكية، بزيارة لبغداد في أول زيارة له كوزير للدفاع، واللافت للانتباه تصريحاته التي أكد فيها أنه سيضغط على بغداد كي تقرر مصير الوجود العسكري الأمريكي وملاحقة المتشددين الذين يهاجمون القوات الأمريكية بصواريخ إيرانية، وقال: نسعى إلى ملاحقتها لاستهدافها جنودًا أمريكيين خلال الأسابيع الماضية، وهي الفترة التي سبقت التفاهمات على بقاء القوات الأمريكية، وهي نوع من المفاوضات غير المباشرة، لكن بطريقة الضغط العسكري، وبانيتا قدم لبغداد بزيارة مفاجئة بعد زيارة لأفغانستان، وذكر أن أمريكا قلقة جدًا من الدعم الإيراني للمتطرفين في العراق وتزويدهم بالسلاح، وقال: على الجنود الاستعداد للقيام بعمليات أحادية الجانب، بمعنى عدم إشراك العراقيين فيها، وأن واشنطن لن تسمح باستمرار استهداف جنودها، ولن تسمح باستمرار الدعم الإيراني، وأن على القوات العراقية ملاحقة المليشيات المسلحة والضغط على إيران لوقف تسليحها تلك المليشيات.
المسؤول الأمني الأمريكي قال: لقد تعودنا في العراق أن تشهد الأجواء سخونة وانفجارات واستهدافًا لقواتنا قبل الحديث عن خروجنا من العراق، وذلك لتحسين شروط التفاهمات، وقال: إن طهران وحكومة المالكي يرغبان في العلن التأكيد على دعمهما خروج قواتنا، لكنهم سرًا يضرمون النار ويشعلونها لإثارة الهواجس من قِبل القوى الأخرى لدفعها للتمسك بوجودنا، لكن الاثنين يبحثان عن امتيازات وتفاهمات وصفقات، وهذه هي اللعبة. وقال: إن هناك تسريبات تمت في بغداد لتفاصيل الاتفاق الأمريكي ـــ العراقي الذي ينص على بقاء العراق في تسع نقاط رئيسة ومحورية ولعام 2016.
تصريحات بانيتا تلك جاءت متقاربة في الأهداف مع تصريحات الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، الذي قرر طبعًا عدم إعادة جيش المهدي التابع له إلى العمل حتى لو لم تنسحب القوات الأمريكية من البلاد في نهاية العام الجاري، وحجة الصدر ـــ بحسب بيان له ـــ قال فيه: ''إن ما يزيدني حزنًا وألمًا وأسى أن أرى أن المفاسد قد زادت مرة أخرى بين صفوف من يدعون أنهم منتمون إلى جيش المهدي''. هل حَلُّ قوات جيش المهدي له علاقة بالموقف الأمريكي من المليشيات؟ وهل هو استجابة عاجلة لأوامر أمريكية؟ وهل فعلاً أمريكا جادة في محاربة المليشيات في العراق بعدما اتضح أن إيران على علاقة بتنظيم القاعدة وقيادته؟
طهران في حالة استنفار قصوى، فهي تتدخل في المسرح التركي، وزيارة أوغلو حملت لطهران فرمانًا تركيًا بضرورة عدم التدخل في الشؤون التركية، وحملت غضبة أردوغانية على بعض السلوكيات الإيرانية فيما يتعلق: أولاً بدعم سورية ضد شعبها حسب التقدير التركي، ودعم القذافي سرًا لإطالة أمد المعارك الجارية هناك، والأخطر من ذلك أن أنقرة حذرت طهران من مغبة الإساءة إلى تركيا بعدما رصدت المخابرات التركية اتصالاً وتنسيقًا إيرانيًا سوريًا مع الأكراد، واتصالاً وتنسيقًا سوريًا إيرانيًا مع اليونان، واليونان على خصام تاريخي مع أنقرة، ودمشق حاولت أن تجد في أثينا بوابة اتصال مع تل أبيب، خلافًا للباب العالي، وتأكيدًا على ذلك جاءت تصريحات الرئيس اليوناني كارولوس بابولياس عن أن التقارب بين أثينا وتل أبيب ذو صلة وثيقة بالأزمة التركية ـــ الإسرائيلية، خاصة أن تل أبيب وجهت ضربة كبيرة للدبلوماسية التركية في الأمم المتحدة، حيث جاء في تقرير الأمم المتحدة الخاص بأسطول الحرية أن إسرائيل بريئة، وأن تركيا تدعم الإرهاب، ما دفع أنقرة لاستخدام نفوذها وعلاقاتها لتأجيل صدور التقرير الدولي والبحث عن كوة في جدار العلاقات مع إسرائيل لتجاوز الماضي.
ويبدو أن التنسيق السوري ـــ الإيراني ـــ اليوناني ستكون له نافذة على تل أبيب أيضًا التي ترغب في أن تكون بيضة الميزان في الصراع الإقليمي الدائر في المنطقة، وترغب في إبطاء التغييرات في الدول العربية والإبقاء على نظم بينها وبين تل أبيب علاقات أو نوافذ دبلوماسية كليبيا وسورية وإيران، الأمر الذي دفع تركيا لترمي بثقلها في إعادة بناء مثلث العلاقات العربية ـــ التركية ـــ الخليجية والمصرية، وضغطت على حركة حماس والسلطة الفلسطينية لتسمية رئيس حكومة الوحدة الوطنية الجديدة، والدعوة إلى مؤتمر تضامني إسلامي مع الشعب السوري واحتضان مؤتمر آخر للمعارضة السورية في وقت تشهد فيه العلاقات السورية ـــ الفرنسية والأمريكية توترًا.
إدراك إيران هذه المتغيرات الإقليمية والدولية، وإدراكها أنها تعيش على قلق الانفجار الشعبي الداخلي بعد انعقاد ثلاثة مؤتمرات مهمة للمعارضة ورابع للقوميات سيعقد قريبًا، وربما تحتضنه أنقرة أيضًا، هذا الإدراك دفع بوزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي ليعيد ترتيب الأرواق الدبلوماسية الإيرانية عندما أكد أن العلاقات مع السعودية قائمة ومهمة، وأن الخلافات على قضايا إقليمية، وأن الجلوس على طاولة الحوار كفيل بإنهاء الأزمات، ولم تكتمل تصريحات صالحي حتى خرج أحمد جنتي أمين مجلس صيانة الدستور ليكيل اتهامات للبحرين ويصف الحوار الوطني بأنه غير مجدٍ، ويدعو لفتح البحرين وأن يحكمها الإسلام، وعَدَّتِ البحرين هذه التصريحات تدخلاً في الشأن الداخلي لها وفي الأمن الخليجي، فيما وجه إسماعيل كوثراني نائب رئيس لجنة الأمن القومي والسياسات الخارجية في البرلمان الإيراني دعوات للأردنيين قال فيها: إن عدم استجابة الأردن لمطالب المواطنين يعود إلى ارتباطه بكل من الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، داعيًا الأردنيين إلى أن يسعوا للتخلص من التبعية للدول الأجنبية وتقرير مصيرهم بأنفسهم، الأمر الذي دعا الدكتور محمد الحلايقة رئيس لجنة العلاقات الخارجية والدولية في البرلمان الأردني الشعب الأردني إلى التأكيد على أن بلاده ليست في حاجة إلى نصائح كوثري أو غيره، وحبذا لو صرف وقته وجهده لتوجيه نصائح إلى حكومة بلاده التي قمعت المعارضين والمتظاهرين، فيما أكد وزير الخارجية المصري محمد العرابي أن أمن الخليج أولوية ومحل اهتمام مصرى بنسبة 100 فى المائة، وأن التقارب مع إيران لن يكون أبدًا على حساب الخليج.
سألت المسؤول الأمريكي عن حركة المتغيرات في المنطقة وإلى أين ستؤول، قال: كل الأمور تؤكد تفكيك الدولة الأمنية والدكتاتورية في المنطقة (تونس، ليبيا، مصر، سورية، وإيران)، وكل المؤشرات تؤكد تعميم النموذج التركي في المنطقة أو الاقتراب منه، وكل التوقعات تؤكد نهاية العلاقات الاستراتيجية الإيرانية ـــ السورية، وقد تكون نهاية لفصل ومشهد تاريخي، وسيكون لذلك أثر كبير في حزب الله وحماس، ومرحلة لنهاية الأيديولوجيات السياسية الراديكالية، وستكون لذلك تداعيات على طهران. وأضاف المسؤول الأمريكي أن القضية الفلسطينية في طور الحسم النهائي على قاعدة حدود الرابع من حزيران 1967، وأن الربيع العربي ستكون له تداعيات على البنى الفكرية والمعرفية والقانونية والدستورية في العالم العربي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي