ليبيا.. صفقة سياسية ونهاية مرحلة جماهيرية العقيد
على مدى أربعة عقود خلت عاشت ليبيا مرحلة لا تختلف كثيرا في سماتها التنموية والسياسية والاجتماعية عن فترة ما قبل ولادة الدولة الحديثة، التي وإن لم تكن دون المستوى المطلوب في عديد من المجالات، إلا أنها نقلت مرحليا المجتمعات من عصر إلى عصر آخر أكثر تطورا من الفترة التي سبقته، وسعت في أكثر من ميدان لتحسين شروط التنمية، وما يتبعها من خدمات وبنى تحتية وتعليم وصحة وطرقات وغيرها من مقومات أي دولة تسعى لتكون مؤثرة ومغيرة في مجتمعها، ولكن يبدو أن الحالة الليبية هي استثناء فقد كشفت المرحلة "القذافية" عن عمق التخريب والتهميش الذي يعيشه المجتمع الليبي، وخصوصا في مجال التعليم والصحة والبنية التحتية وغيرها من مستلزمات الحياة الرئيسة، حيث أصبح من المتعذر الحديث عن أنها دولة حديثة!
ويعتقد الدكتور محمد يوسف المقريف في دراسة له عن النظام الليبي الذي زُرِع فوق أرض ليبيا منذ الأوَّل من أيلول (سبتمبر) عام 1969 مهّمتان رئيستان على الصعيد الداخلي، تتمثَّل أولاهما في ممارسة "طغيانٍ ثوريّ"، أو "طغيانٍ باسم الثورة"، من أجل تفكيك وتحطيم البنية الأخلاقية والقيميّة للمجتمع الليبي والدولة الليبيّة معاً. أمَّا المهمّة الثانية، فتتمثَّل في نهب وتبديد وإساءة توظيف أموال وثروات ليبيا، وفي حرمان شعبها من استخدام هذه الأموال والثروات في تحقيق رفاهيته وصنع تقدّمه ونهضته.. وعمد النظام الانقلابي منذ أواخر الثمانينيات ومع مطلع العقد الماضي، إلى تغييب المعلومات والبيانات المتعلّقة بالأوضاع المالية والاقتصادية في ليبيا. وكان من مظاهر ذلك:عزوف النظام وإحجامه عن تزويد المنظمات الإقليمية والدولية (الجامعة العربية والبنك الدولي على سبيل المثال) بالمعلومات والبيانات الخاصّة بالأوضاع والتطوّرات المالية والاقتصادية في البلاد. وأصبح أمراً معتاداً ومألوفاً أن تخرج التقارير الدورية التي تصدرها هذه المنظمات دون الإشارة إلى ليبيا بأيّة أرقامٍ أو نِسب أو مؤشّراتٍ على اعتبار أنَّ البيانات الأساسية الخاصّة بها "غير متوافّرة" أو "غير متاحة".
وعملية إعداد الميزانية في ليبيا تتّسم بالارتباك والغموض. والبيانات الرسمية من الممكن أن تكون مضلّلة جداً.. هناك كمٌّ هائل من الترتيبات الخاصَّة المعقَّدة التي تعوق تعامل المصرف المركزي مع مخصّصات الإنفاق العسكري والتحويلات المالية المتعلّقة بسياسة النظام الخارجية والتي لا تخضع لرقابة السلطات المالية. وهناك إرباك آخر مصدره التذبذب في تعريف كلٍّ من "ميزانية التنمية" و"الميزانية العادية" (وما يندرج تحت كلٍّ منهما). كما أنَّ هناك دلائل تشير إلى وجود تناقضٍ بين الأرقام الرسمية المعلنة. وفضلاً عن ذلك، فهناك بنود يجري نقلها من تخصيصٍ إلى آخر في الميزانية بشكلٍ عشوائي، كما أنَّ الموضع المناسب للمصاريف الجارية المتعلّقة بمشاريع إنمائية قديمة هو غير واضح. ومن ثمَّ فإنَّ البيانات المستقاة من مصادر أجنبية هي الأفضل اعتماداً لتقييم الأداء الاقتصادي في ليبيا، رغم أنَّ هذه، هي الأخرى، يمكن أن تكون مضلّلة.
مما يؤكد أن ليبيا فقدت فرصا عديدة لنهضة شعبها وتقدمه. ويمكن وصف فترة حكم القذافي بأنها تمثل "عقود التنمية المفقودة" في ليبيا، فالحكم الشخصي الذي اعتمد على عائلة القذافي ودائرة ضيقة من المقربين والأتباع، أدى إلى حرمان الجماهير العريضة من عوائد الثروة في بلادهم. ولا يخفى هنا أن ليبيا تتمتع بامتلاكها أكبر احتياطي للمواد الهيدروكربونية في القارة الإفريقية.
لقد بدد القذافي وأولاده ثروة المجتمع الليبي من خلال إنفاقهم على شراء الأسلحة والمصالح المالية في الغرب. وبدلا من التوزيع العادل لمليارات الدولارات من العوائد النفطية على الشعب الليبي، استأثرت بها دائرة ضيقة تلتف حول القذافي وعائلته. ويبدو أن الوصف الدقيق لهذه العقود الأربعة التي هيمن عليها "الأخ العقيد" هو: تبديد أرصدة الثروة والقوة في المجتمع الليبي.
ورغم الشعارات الثورية التي رفعها القذافي وأعوانه، فإنه فتح الباب واسعا أمام التنافس الغربي على النفط الليبي، ففي عام 2003 رفعت الأمم المتحدة العقوبات المفروضة على ليبيا. وحاولت فرنسا عبر بوابة مشروع الاتحاد المتوسطي منافسة الوجود الأمريكي - البريطاني في شمال إفريقيا.
وسرعان ما أصبح القذافي من أكبر حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، وهو ما عكسه تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كوندوليزا رايس عندما زارت ليبيا عام 2008، إذ قالت إن "الأمم ليس لديها أصدقاء أو حلفاء دائمون، وإنما لديها مصالح دائمة".
وليس بخافٍ أن المصالح التي تعنيها الوزيرة الأمريكية هنا تتمثل في احتياطيات النفط الليبية الهائلة التي تبلغ نحو 42 مليار برميل ونحو 1.5 تريليون متر مربع من الغاز الطبيعي. وثمة دلائل قوية على أن هذه الاحتياطيات الهائلة ستتضاعف في المستقبل المنظور.
إضافة إلى تلك المصالح النفطية، عمل القذافي باعتباره حارسا أمينا للبوابة الأوروبية من فيض حركات الهجرة الإفريقية غير المشروعة، إذ تعهد نظام القذافي بإيقاف حركة المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا ولا سيما إيطاليا وذلك عبر القبض عليهم وإبقائهم في ليبيا. ولعل ذلك يفسر لنا سر علاقة القذافي الوطيدة برئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني.
وشكّل تاريخ ليبيا في الـ 40 عام الأخيرة من خلال شخصية القذافي كدكتاتور وقائد لثورة وحكم يقوم على سلطة تستند نظريا على "أيديولوجية" تشكل مزيجا من القومية العربية والإسلامية المعادية للإمبريالية. وبلور القذافي كل العناصر الأيديولوجية المذكورة من خلال نظريته الثالثة في كتابه الأخضر الذي أحرقته جماهير الثورة المستمرة، وعبارة "يحكم الشعب كله" تساوي مجتمعا بلا سلطة، أو دولة يتوافر لها ركنان فقط: البقعة، والأمة، وهو أمر غير معقول بالمرة؛ إذ إن مجتمع القبيلة حتى في حال ترحلها وتنقلها وراء المراعي كان يستبدل البقعة ببقعة أخرى، غير أنه لم يكن يستغني عن زعامة تقوده.
إن حال "الجماهيريات" الذي سوَّق له القذافي تسويقا واسعا وطويلا، قد يبدو - من الناحية التجريدية الخالصة - مغريا ومقدمةً للخلاص من الاستبداد، وضمانا للتساوي بين الناس، وتحقيقا للمجتمع المثالي، إلا أنه بعيد كل البعد عن الواقع، حيث لو طبقناه فلن نكون إلا أمام وضع من اثنين: إما هرج ومرج لا تستقر معهما حال، ولا يبقى أمان، أي أنه لا تكون هناك دولة ولا أمة بالمعنى المعروف. وقد حدث هذا في الصومال بعد أن خفّت يد السلطة فقط عن الإمساك بزمام الأمور، فما بالنا بمجتمع بلا سلطة محددة، أو بلا سلطة على الإطلاق؟
وإما أن تؤول المسألة إلى دكتاتورية خالصة يصبح فيها الزعيم الملهم أو الحزب المقدس هو قطب الرحى للدولة (أنا ليبيا). وما قام به القذافي من تنكيل بأبناء الشعب الليبي أثناء ثورتهم وقبلها، جاء من منطلق هذا الشعور الدكتاتوري بامتلاك الوطن ومن عليه وما عليه وما يطير في سمائه وما يستقر في جوفه.
القذافي استبعد من الأنظمة المعتادة في إدارة الدول أفضل ما فيها، وهو حفظ أمن المواطن وضمان سلامته واستقرار حياته، واحتفظ بأسوأ ما فيها، وهو الاستبداد المطلق والتصرف المنفرد ومن هنا يكون القذافي قد استبعد من الأنظمة المعتادة في إدارة الدول أفضل ما فيها، وهو حفظ أمن المواطن وضمان سلامته واستقرار حياته، واحتفظ بأسوأ ما فيها، وهو الاستبداد المطلق والتصرف المنفرد وغير المسؤول في أمور البلاد والعباد.
ويشبه هذا من بعض الوجوه مشكلة أخرى دارت في إطار الدراسات الأخلاقية والسياسية؛ إذ قيل إن النظم العرفية والقانونية التي تفرضها المجتمعات على أفرادها تصادر بالضرورة جزءا من حريتهم، وقد عبر عن هذا البحاثة الفرنسي أميل برييه بقوله: "إن الناس في مختلف بقاع العالم يفهمون النظام الذي تفرضه الجماعة على أفرادها كما لو كان من شأنه أن يجعل الإنسان عبدا. ويبدو أنهم يجهلون أن المجتمع ليس إلا نتيجة للسلوك الأخلاقي لدى كل فرد من أفراده".
وقد تبدو "الجماهيريات" مجرد فكرة انفصلت عن الواقع، إلا أن الغالب عليها أنها "فذلكة سياسية" لجأ إليها مستشارو العقيد - أو مؤلفو الكتاب الأخضر المنسوب إليه - للتغطية على نموذج استبدادي له تفرده الخاص في تسيير أمور البلاد بثرواتها الهائلة، والوصول بالقمع والتنكيل بالليبيين في الداخل والخارج إلى مستويات قياسية، حتى لا يبقى في البلاد إلا خانع فاقد لحريته، أو متواطئ منتفع من فتات النظام، ولا مجال بعد ذلك للحديث عن الثروات المنهوبة ولا الحياة الصاخبة التي يحياها الزعيم وأبناء الزعيم، فقط يبحث الناس عن قليل من الحرية، أو حتى مجرد الحياة.
مثل هذه العقلية التي حكمت ليبيا عملت وبشكل منهجي ومنظوم على تغييب المجتمع الليبي وفككته لمصلحة الزعيم الأوحد الذي لم يترك أي فرصة ولو يسيرة للشعب الليبي للتطور والمضي قدما في ركب التطور، بل على العكس من ذلك فقد ساهم العقيد في تخلف بنية المجتمع، وهذا ما دفع الجماهير في ليبيا للخروج على العقيد في حركة ثانية من استعمار فردي قاده القذافي وأفراد عائلته. وأصبحت ليبيا دولة تعيش خارج الشرط التاريخي نتيجة لتلك السياسيات التي عطلت تطور البلاد، وأدخلت العباد في سجن كبير، وجعلت من ليبيا جزيرة معزولة تعيش في ظلام دامس نتيجة لتلك العقلية التي يختلط فيها الجنون بالدكتاتورية، وأعطت المشهد الليبي صورة ضبابية، نتج عنه ذلك الخروج على سلطة الدكتاتور بشكل لم يكن يتوقعه العقيد القذافي الذي كان يعتقد أن سنوات الجهل والتخلف التي أدخل فيها ليبيا ستبقى الضمان الوحيد لاستمراره في السلطة والتربع على عرش مقدرات ليبيا هو وأبناؤه، ولكن ما حدث غيّر المشهد بشكل دراماتيكي وقلب الصورة رأسا على عقب.