إيران تفقد روابطها الاستراتيجية في العالم العربي

إسقاطات وتخرصات النظام الإيراني لا تنتهي أبدًا، فقد بدأ يأخذ هذا الشعور المؤجج بالانفصام السياسي لدى المسؤولين الإيرانيين طابعًا مختلفًا عما كان عليه جراء ارتفاع لهيب الثورة السورية وإمكانية فقدان إيران حليفها هناك، وما سيتبع هذا الحدث من كوارث قد تصيب هذا البلد في المستقبل القريب، تتمثل في فرط عقدها الاستراتيجي في لبنان والعراق وبقية المناطق الشرق أوسطية.
أصابت الهلوسة الإيديولوجية المسؤولين الإيرانيين بالعمى، ما دفع بعضهم إلى نثر اتهاماته يمينًا وشمالاً، فقد صاغت الصحيفة الناطقة باسم الحرس الثوري "صبح صادق" كيل الاتهامات والتهديدات لتركيا بسبب ما وصفته تزويد الأخيرة بالسلاح والذخيرة للمعارضة السورية. فقد هددت الصحيفة تركيا بأنّ إيران لن تفضل تركيا على سورية في حال استمر النهج التركي إزاء حكومة بشار الأسد، مؤكدة أنّ الحكومة الإيرانية أبلغت مسؤول الدبلوماسية التركية، أحمد داوود أوغلو الذي كان قد زار طهران في الفترة السابقة أنّ الترابط في المصالح بين طهران ودمشق لا انفصام له.
تشير الصحيفة "الحرسية" إلى أسباب الوفاق السوري ـــ الإيراني ومدعاة قلق طهران من الموقف التركي حيال سورية، مؤكدة أن موقف طهران لن يتغير حيال نظام الأسد؛ لأنّ منطق التحالف الاستراتيجي والبعد الإيديولوجي يحتّم على طهران أن تقف بجانب النظام السوري، وأن تفضّلها على تركيا وغيرها من الدول الإقليمية. ونقلت عن المساعد السياسي في الحرس الثوري قوله: إنّ موقف تركيا المعادي للنظام السوري سيضع هذا البلد في مواجهة إيران وتصعيد الصراع معها، وتنصح الصحيفة المسؤولين الأتراك بأن يدركوا جيداً موقف طهران، وبناء عليه أن يتصرفوا بحكمة، وأن يتمتعوا بقدر عال من الدهاء حيال ما يجرى هناك.
يبذل النظام الإيراني جُلّ مساعيه للقفز على استحقاقات الربيع العربي خلال وصفه المثير للثورات العربية بأنها "صحوة إسلامية " تغزو البلدان العربية مستلهمة من نظيرتها في إيران التي قطفت ثمارها قبل ثلاثة عقود ونيف، في حين لا يأبه النظام الإيراني إلى وضع مسطرته للتفريق بين بلد عربي وآخر يشهد ثورة مستعرة، فيصف المرشد الإيراني ما يجري في سورية على أنه استنساخ لثورات عربية ومؤامرة غربية صهيونية للنيل من نظام الممانعة في دمشق، ويصف ما يجري هناك بالشكل التالي: "سورية تقف في الخط الأمامي للمقاومة، وإن ما يجري فيها يختلف تمامًا عما يجري في بقية الأقطار العربية، وإنّ ما تشهده سورية من أزمة مضادة لبشار الأسد هي مجرد ثورة منحرفة"، في حين يؤيد النظام مطالب الليبيين، وإن كانت بشكل "مسلح"، واليمينيين وإن كانت بشكل حوثنة الصراع "الحوثيين" وانقلاب بعض الموالين البحرينيين لطهران، وإن كانت بصورة "طائفية مقيتة" ولا يأبه إلى من يطالب بحقوق مشروعة ضمن إطار الدولة البحرينية.
لم يتوقف النظام الإيراني وحرسه الثوري عند هذا الحد من الأزمة في المواقف والتخبط في اتخاذ القرارات لما تشهده المنطقة الرعبية، فيواصل دعمه اللامحدود للبعث السوري، بل يقوم بإرسال شبيحته التي تعرف في إيران بـ"أراذل وأوباش" و"لباس شخصي" الحرس الثوري والقوات الخاصة لقمع المحتجين السوريين والتنكيل بهم، وتدريب الشبيحة السورية بأدوات مبتكرة من القمع وقطع الأيدي والأرجل والأنوف، والتصفيات عبر القناصة، وتزويد النظام السوري بستة مليارات دولار لإخراجه من أزمته المالية الخانقة وهلم جرّا.
من هذا المنطلق؛ قامت الحكومة الأمريكية بوضع عدد من المسؤولين في الحرس وقوى الأمن الداخلي الإيراني في قوائم العقوبات الصارمة بسبب مشاركتهم في قمع السوريين، وفرضت عقوبات جديدة على "فيلق القدس" المتهم بقتل المتظاهرين في سورية.
يرى الكثير من المراقبين أنّ الموقف الإيجابي للحكومة التركية من الثورات العربية عامة والثورة السورية خاصة وإيواءها أكبر عدد ممكن من اللاجئين السوريين، واحتضان مؤتمر السفارات الفلسطينية في الخارج وموقفها الإيجابي من القضية الفلسطينية وبقية القضايا العربية، جعلت هذا البلد يقصد منه الوقوف بموقف المنافس القوي بوجه طموحات طهران وإسرائيل في المنطقة العربية، حيث تنظر الحكومة الإيرانية لتركيا على أنها منازع قوي لها في المنطقة، ما دفع الأخيرة إلى تشديد لهجتها وخطابها الإعلامي ضد تركيا حزب العدالة والتنمية، الذي كان الكثير منا يتصور أنه الحليف الأول للنظام الإيراني قبل فترة قليلة من بداية فصل الربيع العربي.
إن لتركيا موقفًا إيجابيًا وعصريًا من القضايا في المنطقة، حيث أصبح هذا البلد ملاذًا للهاربين من بطش الأنظمة، حيث استقبلت تركيا اللاجئين السوريين في حين ترفض الدول العربية الأخرى مثل لبنان والعراق إيواء أسر تهرب من قمع النظام السوري، ولا يكتفي الأشقاء العرب بعدم استقبال اللاجئين، وإنما يقوم بتسليم المنشقين من الجيش السوري لسورية لكي تتم تصفيتهم من قبل هذا النظام. من هنا؛ وضعت هذه المواقف النبيلة الحكومة التركية في اهتمامات الشارع العربي، ورفعت رصيد هذا البلد، مما جعلته يتأهل في أخذ دور ريادي في العالم الإسلامي يتفوق على معظم الدول العربية والإسلامية، وكلنا يتذكر الدور الخائب للجامعة العربية حيال ما يجرى من أحداث دموية في سورية، ويأتينا الأمين العام للجامعة ليتحدث بدم بارد من دمشق عن أحداث سورية، ويصفها بأوصاف غير لائقة تشبه إلى حد كبير وصف النظام السوري لما يجري هناك، فكيف لا ترفع هذه المواقف العربية رصيد تركيا مهما شكك البعض بتوجهاتها واتهمها البعض الآخر بلعب دور"العثمانيين الجدد" وتقاسم الأدوار بين طهران وإسرائيل وأنقرة على النفوذ في عالمنا العربي، أليس بالأحرى أن يقوم العرب أنفسهم بلعب هذه الأدوار واتخاذ المواقف المساندة لأشقائهم الذين يمرون بظروف عصيبة قبل غيرهم، وألا يسمحوا لكي تتحول أراضيهم إلى أراضٍ سائبة لمن هَبَّ ودَبَّ؟!
يعرف النظام الإيراني قبل غيره أن أي تغيير قد يطول خريطة تحالفاته الإقليمية بدءًا بسورية، ومن ثم لبنان والعراق وصولاً للخليج العربي سيصيب مشروعه الاستراتيجي بجلطة قد تعطله بشكل نهائي، أضف إلى ذلك ما يعانيه هذا البلد من أزمة مستعصية في الداخل، وأنّ النار التي لم تخمد في يوم من الأيام، وما زال لهيبها يركن تحت الرماد ستشتعل من جديد لتأكل الأخضر واليابس في هذا البلد، وهذه ستكون النهاية الحتمية للنظام على يد الشعوب المقموعة في إيران، التي تعاني لأكثر من ثمانية عقود؛ أي منذ تأسيس الدولة الإيرانية الحديثة، التي توّجت الحرمان وعدم الاعتراف بالآخر غير الفارسي النظام الإيراني الحالي الذي يحكم البلد لأكثر من ثلاثة عقود ولا يزال.
إنّ الذي طرأ على تصريحات المسؤولين الإيرانيين في الآونة الأخيرة، وعلى رأسهم وزير الخارجية الإيراني علي أكبر صالحي حيال السعودية، وموقفه المفاجئ من البحرين، ودعوته إلى الدخول في مفاوضات دون شروط مسبقة مع الأمريكيين، ما هو إلا تعبير صريح عن عزلة إيران وشعورها بالإحباط حيال انعكاسات ما ستتعرض له سورية من تغيير للنظام، الذي سيترتب عليه الكثير من التغيرات في المنطقة وعلى رأسها لبنان حزب الله، الذي أيد وساند بما أوتي من قوة النظام السوري، وهذا الأمر أفقده الشرعية القليلة التي كان يتمتع بها بين جماهير تحكمها مشاعر النكبة والغبن بعد حروب الهزيمة مع إسرائيل، ما دفع الحزب ومرجعيته في طهران في الفترات السابقة إلى توظيف هذه المشاعر العربية لمصلحتها عبر استخدام شعارات فضفاضة معادية لإسرائيل، لكي يأسر الحزب ومن ورائه ولي الفقيه قلوب مؤيديه، لكن تأييدهما للقتل في سورية أفقدهما المصداقية، خاصة بعدما توصلت الشعوب العربية إلى نتيجة في غاية الحساسية، وهي أنّ أعداءهم لم يأتوا في يوم من الأيام من وراء البحار، بل هم موجودون بينهم.
ستكون هذه مقدمة السقوط الشرعي العربي لحزب الله، لكن لن تكون هذه المرة عبر ثورات وإنما عبر سقوط جماهيري سيكون أكثر مردودًا حتى من السقوط الثوري الذي سيفتح الباب أمام الكثير من الإطاحات، وفي مقدمتها الأنظمة التي ستسقط جراء ذلك، النظام الإيراني الذي سقط شرعيًا في الداخل، وفي حاجة ملحة لكي يسقط بين الجماهير العربية والإسلامية بعدما أخذ هذا النظام يفقد قلعته الحصينة في الشام وبيادقه اللبنانية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي