الانكماش الأعظم الثاني
تُرى لماذا لا يزال الجميع إلى وقتنا هذا يطلقون على الأزمة المالية الأخيرة وصف ''الركود الأعظم''؟ الواقع أن هذا المصطلح يستند إلى خطأ تشخيصي خطير للمشكلة التي تواجه الولايات المتحدة وغيرها من الدول، الأمر الذي أدى إلى توقعات غير سليمة وسياسات رديئة.
إن عبارة ''الكساد الأعظم'' تخلق انطباعاً بأن الاقتصاد يتبع خطوط الكفاف لحالة ركود نموذجية، ولكنها أكثر حدة بعض الشيء أو ما هو أشبه بنزلة برد شديدة حقا. ولهذا السبب خابت طيلة هذه الأزمة جميع توقعات المتكهنين والمحللين الذين حاولوا القياس على فترات الركود السابقة التي شهدتها الولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب. كما اعتمد العديد من صناع القرار السياسي فضلاً عن ذلك على اعتقاد مفاده أن الأمر في النهاية لا يعدو كونه مجرد ركود عميق يمكن إخضاعه بالمساعدات السخية بالاستعانة بأدوات سياسية تقليدية، سواء كانت السياسة المالية أو عمليات الإنقاذ الضخمة.
ولكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن الاقتصاد العالمي مثقل بالديون إلى حد خطير، ولا يوجد مخرج للهروب السريع من دون وضع مخطط لنقل الثروة من الدائنين على المدينين، سواء عن طريق التخلف عن السداد، أو القمع المالي، أو التضخم.
هناك مصطلح أكثر دقة، ولو أنه أقل بثاً للطمأنينة، لوصف الأزمة الجارية، ألا وهو ''الانكماش الأعظم الثاني''. وكنا قد اقترحنا هذا الوصف أنا وكارمن راينهارت في كتاب لنا تحت عنوان ''هذه المرة مختلفة''، استناداً إلى تشخيصنا للأزمة باعتبارها أزمة مالية عميقة نموذجية، وليست ركوداً عميقاً نموذجيا. كان ''الانكماش الأعظم'' الأول بطبيعة الحال هو أزمة ''الكساد الأعظم'' (في ثلاثينيات القرن الـ 20)، كما أكَّد ميلتون فريدمان وآنا شوارتز. فالانكماش لا ينطبق على الناتج وتشغيل العمالة فحسب، كما هي حال الركود العادي، بل وينطبق أيضاً على الديون والائتمان، وعملية سداد الديون التي تستغرق عدة سنوات عادة حتى تكتمل.
ولكن لماذا نجادل في دلالات الألفاظ والمسميات؟ حسنا، تخيل أنك مصاب بالتهاب رئوي، ولكنك تتصور أن الأمر مجرد نزلة برد شديدة. هذا يعني أنك قد لا تتناول الدواء الصحيح، ولكنك ستتوقع رغم ذلك أن تعود حياتك إلى طبيعتها بشكل أسرع كثيراً من الواقع.
ففي حالة الركود التقليدية، يعني استئناف النمو ضمناً عودة سريعة إلى حد كبير إلى الوضع الطبيعي. فالاقتصاد لا يستعيد الأرض التي خسرها فحسب، بل قد ينجح في غضون عام عادة في اللحاق باتجاهه الصاعد في الأجل الطويل.
ولكن العواقب المترتبة على الأزمة المالية النموذجية تختلف تمام الاختلاف. فكما برهنت أنا وكارمن راينهارت، يستغرق الأمر عادة أكثر من أربعة أعوام قبل أن يتمكن الاقتصاد من العودة إلى مستوى نصيب الفرد نفسه في الدخل الذي تمكن من بلوغه في ذروة ما قبل الأزمة. ولكن حتى وقتنا هذا، وعبر نطاق عريض من متغيرات الاقتصاد الكلي، بما في ذلك الناتج وتشغيل العمالة والدين وأسعار المساكن بل وحتى أسعار الأسهم، أظهرت مؤشراتنا الكمية القائمة على القياس على الأزمات المالية العميقة في حقبة ما بعد الحرب قدراً أعظم كثيراً من الدقة مقارنة بمنطق الركود التقليدي.
زعم العديد من المعلقين أن الحافز المالي فشل إلى حد كبير، ليس لأنه كان مضللاً، ولكن لأنه لم يكن ضخماً بالقدر الكافي للتصدي ''للركود الأعظم''. ولكن في حالة ''الانكماش الأعظم'' تتلخص المشكلة الأولى في الديون المفرطة. وإذا كان للحكومات التي تتمتع بتصنيفات ائتمانية قوية أن تنفق مواردها النادرة بشكل فعّال، فإن التناول الأكثر فعالية يتلخص في تحفيز برامج التخلص من الديون وتخفيضها.
على سبيل المثال، تستطيع الحكومات تيسير برامج شطب ديون الرهن العقاري في مقابل حصة في أي ارتفاع لأسعار المساكن في المستقبل. وبوسعنا أن نطبق توجهاً مماثلاً على البلدان. على سبيل المثال، ربما كان بوسعنا إقناع الناخبين في البلدان الغنية في أوروبا بالمشاركة في عملية إنقاذ أضخم لليونان (أضخم إلى الحد الذي يضمن نجاحها)، في مقابل مدفوعات أعلى بعد عشرة إلى 15 عاماً إذا عاد النمو اليوناني إلى الأداء الطيب.
ولكن هل يوجد أي بديل لسنوات طويلة من التقلبات السياسية والحيرة؟
في مقال نُشِر لي في كانون الأول (ديسمبر) 2008، زعمت أن السبيل العملي الوحيد لاختصار الفترة المقبلة المؤلمة من تقليص الديون والنمو البطيء يتلخص في موجة مفاجئة مستدامة من التضخم المعتدل، ولنقل بنسبة 4 إلى 6 في المائة لعدة سنوات. لا شك أن التضخم يُعَد وسيلة غير عادلة واعتباطية لنقل الدخل من المدخرين إلى المدينين. ولكن في نهاية المطاف، نستطيع أن نعتبر هذه الوسيلة لنقل الدخل النهج الأكثر مباشرة إلى التعافي السريع. وفي النهاية، فإن ذلك سيحدث على نحو أو آخر على أية حال، كما بدأت أوروبا تتعلم بشكل مؤلم.
ينظر بعض المراقبين على أي اقتراح برفع معدل التضخم ولو بقدر متواضع باعتباره شكلاً من أشكال الهرطقة. ولكن فترات الانكماش العظمى، خلافاً لفترات الركود العظمى، نادرة الحدوث على حد كبير، حتى أنها لا تتكرر إلا كل سبعين إلى ثمانين عاما. وهناك أوقات يتعين على البنوك المركزية فيها أن تستهلك بعض المصداقية التي تتراكم لمصلحتها في الأوقات العادية.
لقد حدث هذا الاندفاع الكبير للقفز على عربة ''الركود الأعظم''، لأن أغلب المحللين وصناع القرار السياسي تصوروا ببساطة إطار عمل غير سليم في أذهانهم. والآن تبين مع الأسف الحجم الحقيقي للخطأ الذي ارتكبوه.
إن الاعتراف بأننا كنا نستخدم إطار العمل الخاطئ يشكل الخطوة الأولى نحو إيجاد الحل. ويشير التاريخ إلى أن حالات الركود يُعاد تصنيفها وتسميتها بعد أن ينقشع الغبار عادة. واليوم ربما ينقشع الغبار بسرعة أكبر قليلاً إذا تخلينا عن مسمى ''الركود الأعظم'' على الفور واستعضنا عنه بمسمى أكثر ملاءمة، مثل ''الانكماش الأعظم''. لقد فات أوان إصلاح التكهنات غير السليمة والسياسات الخاطئة التي صاحبت فترة ما بعد اندلاع الأزمة المالية، ولكن لم يفت الأوان للقيام بعمل أفضل.
خاص بـ «الاقتصادية»
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2011.