أزمة نظام الأسد .. تهميش المواطن وإفقاده كرامته

لطالما ردد السوريون جملة ''سورية الله حاميها''، وهي جملة كان يراها الزائر لدمشق ومدن سورية أخرى، وغالبا ما كانت مقرونة بصورة كبيرة للرئيس الراحل حافظ الأسد، ولكنها في سنوات الحكم السوري تبدلت وأضحت الصورة لرئيس جديد كل ما تقدم بالحكم كان يفقد القدرة على القرار، وتشتبك حوله خيوط الحكم وتتعقد، ويزداد النافذون وعصبة رجال المال من الأقارب الذين جعلوا المواطن السوري يكد ويتعب لأجل تنامي ثروتهم، وفي مقابل هذا الاضطهاد نجح النظام السوري باستخدام نخب فكرية وسياسية واقتصادية مشت معه وشاركت بإقناع الناس في سورية بأنها لن تذهب نحو الانفتاح الاقتصادي وفق النهج الليبرالي الرأسمالي بحجة أنه شر وبضاعة أمريكية، وأن الحل في إعادة الاعتبار لنهج اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يقوم على إطلاق حرية المنافسة ومراقبة تطور الاحتكارات، وخلق حالة من تكافؤ الفرص بين الهيئات والفعاليات الاقتصادية عبر استمرار دور الدولة في مراقبة آليات السوق والتدخل عندما يعجز الاقتصاد الحر عن تأدية مهمته بما في ذلك تسوية المشكلات الاجتماعية، لكن الحال الذي نتج من جوقة أعوان الاستبداد السوري أن إطلاق اليد لم يتم للمنافسة بل لتعزيز الكسب غير المشروع ومنح الفرص لأفراد من العائلة العلوية، وبالتالي لم تتحقق الغاية من هذا النهج وهي خلق مجتمع الرفاه، وإنما خلق مجتمع العبيد.
التوجه لاقتصاد السوق الاجتماعي كان آخر سهم في كنانة النظام السوري، بعد سنوات من التجريب والفشل في إخراج المجتمع السوري من أزمته المتراكمة، وكان ذلك التوجه نتيجة لأحد مخرجات المؤتمر العاشر لحزب البعث الحاكم بخطة جديدة التي حملت اسم ''اقتصاد السوق الاجتماعي'' للتحديث والتطوير ومعالجة حال الركود والتردي الاقتصادي في البلاد، لكن النتيجة كما قلنا كانت عكس ذلك، فقد تعمقت الفوارق بين الناس بما هدد السلم الاجتماعي وزاد التجاوز على القانون وعم الفساد في القضاء وانتشرت الرشوة بشكل يفوق كل التصورات، وهو ما أهّل البلاد للثورة، وقاد الناس للشارع، ولم تعد سورية محمية ربانيا، بل إنها كانت تسير للهدم بفعل سياسات نظامها، كما أن الصور التي كانت تشكل قاعدة لعبارة ''سورية الله حاميها'' لم تعد للأسد الأب وأبنائه وإنما لبشار وأحمدي نجاد وحسن نصر الله، وهو ما يشف عن معنى فقدان استقلال القرار السوري وتحول سورية إلى ورقة بيد إيران وليس العكس كما كانت أيام حافظ الأسد.
بالنتيجة جرّت السياسات السورية الوبال على المجتمع جراء التبعية وفقدان الكرامة وانعدام والوصاية السياسية على الاقتصاد واستمرار ضعف النمو، وباختصار سورية حافظ الأسد لم تعد سورية بشار، فمنذ السبعينيات، ثم الاتفاق بين الأسد الأب وحركة أمل بالتحالف التاريخي مع العلويين باعتبارهم شيعة، ظل الأسد الأب على الرغم من الشرعية التي منحته إياها حركة أمل ثم إيران ما بعد الثورة، قادرا على ضبط التوازن بين العلاقة مع إيران وحلفائها وبين الجوار العربي، وهنا يتحدث السوريون عن محافظة حافظ الأسد على مسألة الكرامة للمواطن السوري وقدرته على ضبط أركان العلويين وعدم إطلاق يديهم في سورية، وهو على خلاف ما سار عليه بشار الذي انحنى كثيرا لإيران وحلفائها في لبنان وعلى رأسهم حزب الله. فانكسرت الكرامة السورية وتوغلت الطائفة العلوية وأصبحت الأولوية للعلويين للتوظيف في المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية، وفي عام 2009 عين رؤساء الأجهزة المخابرات الأربعة (العسكرية والسياسية والجوية والمخابرات العامة، من أصول علوية، هذا إلى جانب النفوذ الاقتصادي والخصخصة في قطاعات الدولة والرخص التي منحت لمحاسيب وأقارب بشار الأسد، وهو ما جعل سورية تتحول إلى مزرعة بيد آل الأسد وأنسابهم، وهو ما جعل المواطن السوري يشعر بأن كرامته كسرت.
مع ذلك، تحمل السوريون مقولة الصمود من أجل المقاومة، وصبروا على بشار الأسد ونظامه كثيرا، والإنسان السوري يجعله حبه للحياة أحيانا قادرا على الصبر لدرجات قسوى، لكنه حين رأى دولته بلا قيادة وإنما بيد طهران، وحين وجد أن رزقه وضرائبه ورسومها التي يدفعها تذهب لطبقة من رجال الأعمال الأقارب للرئيس، وحين وجد أهل القرى والأرياف والمدن السورية الدبابات تقصف وتحاصر مدنهم ويصر الرئيس على أنه يواجه العصابات المسلحة الخارجة على القانون، فإنه من غير الممكن للمواطن السوري العودة للبيت إلا إذا غادر الأسد موقعه وحوكم كل من تلطخت يده بالقتل والترويع للناس.
كل ذلك قاد الناس للمواجهة، مع الفشل والتفرد والاستبداد، ومن جهته النظام قاوم كل محاولات الإصلاح والتغيير، ورفض الشراكة مع المجتمع ونخبه، فتأسست حالة من الحنق والغضب التي بدأت في أعقاب المشهد التونسي والمصري تزداد، ولم يفلح النظام السوري في استثمار الموقف العربي المحافظ في بداية الأزمة السورية وبعد مرور أشهر عليه؛ كون سورية تتوجس ريبة وتستفز من أي تدخل في شأنها، لكن الصمت العربي لم يكن يعني إقرارا بما يجري هنا بقدر ما كان صمتا من القلق على ألا يكون السقوط في سورية سقوطا للنظام بقدر ما سيكون سقوطا للدولة.
من هنا جاء الموقف السعودي تجاه الأزمة السورية، والذي أحدث تحولا كبيرا في مسار الأزمة السورية، وقد أشرنا سابقا في هذا الموقع وعبر الاقتصادية إلى أن الدور السعودي مرشح للتقدم في قيادة توجهات المنطقة، في ظل سقوط الأنظمة العربية ''الثقيلة'' تحت وطأة ضغط الشارع وقمع الجماهير، وقد جاءت تصريحات خادم الحرمين بشأن الأزمة في سورية لتؤكد الوزن السياسي الذي حققه دور المملكة ليس في التأثير إقليميا وحسب، بل في تغيير المواقف العالمية والتأثير المباشر في الموقف الدولي تجاه الأزمة السورية. وقد بدت تصريحات العاهل السعودية مثل كرة الثلج التي أحدث تدحرجها انفراجا دوليا وإقليميا؛ كون الأسد كان يحاول الاستفادة إلى أوسع مدى من الصمت العربي حيال قمعه لشعبه وتنكيله بسكان المدن وإطلاق يد الجيش لضرب المدن وقمع المتظاهرين.
موقف السعودية من الأزمة السورية، تجاوز كل المواقف: التركي والغربي وحتى حلفاء الأسد شرقا في الصين وروسيا والهند، وكان الأكثر تأثير على الرغم من محاولة تركيا منذ بداية الأزمة التلويح بنوع ما من الإجراءات التصعيدية، إلا أنها لم تصل لحزم الرياض الواضح والقائل إن الصمت لم يعد ممكنا وإن أسباب القتل واهية وغير مقبولة مهما كانت نوعيتها أو خلفيات التظاهر.
ولم يكن استدعاء السفير السعودي في سورية ''للتشاور حول تداعيات الأزمة''، مناورة سياسية، بقدر ما كان منعطفا مهما في الموقف السعودي الذي لم يقف عند حد التصريحات المهمة لخادم الحرمين وحسب، بل إن هذا الاستدعاء جرّ معه مواقف عربية أخرى عملت بذات السياق، وهو ما شجع الجار التركي لسورية بالتلويح بتصعيد آخر تجاه الأزمة في سورية، وهو ما عمّق أزمة النظام وانتصر للشعب السوري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي