ثقافة الخرسنة

هناك حالة عدم استقرار تعم مناطق العالم، فأمريكا وأوربا تواجه مشاكل اقتصادية كبيرة جدا أفرزتها الأزمة الاقتصادية التي كانت بداياتها في عام 2007، ويبدو أنها لن تنتهي إلا بتحولات جذرية في شكل وطبيعة الاقتصاد العالمي. فأمريكا بعد الأزمة ستكون غير أمريكا قبل الأزمة، فعملتها الدولار بات يواجه تهديدا حقيقيا، وقد ينتهي الأمر إلى الإطاحة به من موقع الزعامة في سوق العملات الدولية، وأمريكا المديونة بأكثر من 14 تريليون دولار، وهو رقم قابل للزيادة سيجعل أمريكا فعلا تغير الكثير من سياساتها الداخلية والخارجية. فهناك اليوم مطالبات دولية وبشكل مكشوف لأن تقتنع أمريكا بأنها تعيش فوق قدراتها المالية، وما عليها إلا أن ترضى بالحلول المرة وتعمل على تخفيض مستوى معيشتها؛ لأن العالم بات غير مستعد لتمويل شعب يريد الرفاه بأموال الآخرين. ولكن أمريكا ترد على هذه المطالب بأنها دولة قادرة على الخروج من هذه الأزمة بأقوى مما كانت عليه، فأمريكا تجلس على ثروة علمية وبشرية ستمكنها من البقاء كدولة عظمى؛ لأن الثروة في المستقبل هي ثروة العقول البشرية وهي ثروة الفكر والتفكير. وأمريكا تراهن على قوة تنظيمها الإداري ومرونة أنظمتها الاقتصادية على إعادة الثقة بعملتها وبالمناخ وربحية الفرص الاستثمارية لديها. ولكن أمريكا لا تنكر أنها تعيش أحرج لحظات حياتها وأنها تحت ظروف صعبة جدا، وهناك خوف حقيقي من أن تتوالى سلسلة المشاكل والإخفاقات إلى أن تؤدي إلى انهيار اقتصادي حقيقي وشامل، ولكن هناك من يقول إن أمريكا في حاجة إلى مثل هذا التحدي لتخرج نفسها من ثوبها القديم ومن أطر باتت لا تتناسب مع متطلبات الدولة الحديثة في القرن الـ21، وهذا هو حال كل الدول القوية تزداد قوتها بفعل ما تواجهه من تحديات، فكما يقول المثل إن الضربة التي لا تكسر الظهر تقويه. فهل أمريكا فعلا ستكون أقوى أم أضعف في المستقبل؟.. سيبقى هذا السؤال له أكثر من إجابة، ولكن بالتأكيد ستكون أمريكا المستقبل فعلا غير.
ولكن ماذا عن أوروبا التي أرادت بوحدتها أن تستعد لأن تحل محل أمريكا في قيادة العالم اقتصاديا وحتى سياسيا، فاليورو كان ينتظر لحظة ضعف الدولار وتراجع ثقة العالم به كعملة رئيسة ليقفز هو إلى موقع الصدارة، ولكن جاءت هذه الفرصة وهناك شكوك قوية بقدرة اليورو نفسه على البقاء كعملة بعد أن انكشف الغطاء وبان المستور عن المشاكل المالية الضخمة التي تعانيها دول أوروبية كثيرة منها اليونان وإسبانيا والبرتغال وإيرلندا وحتى إيطاليا. فألمانيا تكافح للدفاع عن اليورو ولكن كل يوم تجد نفسها مدعوة لإنقاذ دولة أوربية على وشك الإفلاس بسبب ديونها المتراكمة. فأوروبا إذاً ينتظرها أيضا تغيير وقد يقود التغيير الاقتصادي إلى تغيير سياسي. واليابان سيلحقها ما سيلحق العالم من تغيرات بحكم ارتباطها الاقتصادي وحتى السياسي بأمريكا وأوروبا، ولكن هل ستنجح اليابان في استثمار هذه الظروف الدولية لإعادة إنتاج نفسها كدولة اقتصادية عظمى أم إنها تأثرها سيحتم عليها التراجع في ظل تقدم صيني لا يبدو أنه سيتباطأ تأثرا بما يمر به العالم من تحولات كبيرة. وهناك اعتقاد عام بأن مشاكل العالم المتقدم تصب في صالح الصين والهند، فهاتان الدولتان وخصوصا الصين التي باتت تشعر بأنها تقترب أكثر فأكثر من الإمساك بزعامة العالم، ولكن هناك من يستبعد حصول هذا الأمر في القريب العاجل؛ لأن الزعامة الدولية ليست فقط بالاقتصاد القوي وإنما أيضا بقوة النظام السياسي والاجتماعي وهذا ما تفتقده الصين حتى وقتنا الحاضر.
يأتي الحديث الآن عن عالمنا العربي فهل هو أيضا في مرحلة تحول وتغيير وخصوصا وأن العالم العربي يعيش في وضع اقتصادي سيئ جدا، وبالتالي فهو في حاجة إلى تغيرات وليس نوعا واحدا من التغيير، ولكن السؤال المهم أن بداية هذه التغيرات التي يشهدها العالم العربي اليوم هل ستأخذ المنطقة إلى الأفضل أم إلى الأسوأ؟.. فهناك من يعتقد بأن العالم يريد للمنطقة أن تعيش الفوضى؛ حتى يتسنى للقوى الفاعلة عالميا أن تشكل هذه المنطقة وفق مصالحها المستقبلية. وهناك من يرفض هذه المقولة التي تستند إلى عقلية المؤامرة التي تريد الشعوب العربية الآن أن تحرقها وتدوس عليها مثلها مثل كل المقولات التي قيدت هذه الشعوب ومنعتها من أخذ حقوقها وحرمتها من أن تعيش بكرامة حالها حال الشعوب الأخرى. ولكن حتى الشعوب العربية نفسها لم تكن تتوقع بأنها على موعد مع هذه التحولات والتغيرات التي ستنهض بها للمطالبة بحقوقها. كان يعتقد عالميا بأن الشعوب العربية ولكثرة ما سلط عليها من ظلم واستبداد وقهر قد فقدت القدرة على النطق، بل إنها بلعت ألسنتها وصارت أمة خرساء لا يسمع لها صوت، لا بل إنها صارت تتمتم بكلمات غير مفهومة وتهز رأسها استنكارا لمن يرفع صوته من الشعوب الأخرى للدفاع عن حقوقها في المحافل الدولية. فلقد اندهش العالم وبهتت الشعوب، وهي أخيرا تسمع صوت الشعوب العربية وهي تنهض للمطالبة بكرامتها واستعادة حقوقها. فلعل أهم ما أحس به العالم من تغيير وهو ينظر للشعوب العربية في نهضتها بأنها لم تعد شعوبا خرساء، وعندما نطقت هذه الشعوب أدرك العالم مقدار الألم والمرارة والغضب الذي كان محبوسا في النفوس، لقد أدركت هذه الشعوب أخيرا أن الجرأة في الكلام هي الخطوة الأهم لإزاحة حالة الخوف وتفكيك سلطة الشعور بالجبن.
لقد اكتشفت الشعوب العربية بنهضتها أنها ليست شعوبا خرساء وأن ألسنتها ليست بأقصر من ألسن الآخرين، لكن هناك من أراد لها أن تكون خرساء من خلال تغذيتها بقيم وقناعات وأفكار وتصورات تحولت في النهاية إلى ثقافة هي ثقافة الخرسنة، التي هي اليوم يطاح بها كما يطاح بالكثير من مكونات ثقافتنا التي أوصلتنا إلى ما أوصلتنا إليه من تخلف وتمزق في كل المجالات. ولكن ما هي العوامل التي أنتجت ثقافة الخرسنة؟.. فمعرفة هذه العوامل يسهل كثيرا من مهمة تفكيكها والتخلص منها. وإذا كان المجال لا يتيح لذكرها كلها والخوض في تفاصيلها فسيتم التوقف عند بعضها مع مناقشة موجزة لها.
1- الحط من قيمة النقد والسؤال: اجتهدنا باختلاق القيم وإنتاج القناعات والترويج للأفكار التي تحط من قيمة النقد وممارسته وتدين السؤال وتجعل من ممارسته خروجا عن الآداب وتعبيرا عن تمرد السائل. فإذا خلت الثقافة من النقد والسؤال لم يبق فيها غير المدح الكاذب والذي يكرس الشعور بالذلة في النفوس ويؤصل النفاق في المجتمع، وبالتالي كان الخرس والصمت هروبا من الإحساس بهذا الشعور. فالثقافة الحية تريد من أبنائها أن يكون نصف كلامهم أسئلة والنصف الآخر نقدا ومحاسبة، وأما بقية الكلام فيأتي وحده حتى ولو لم تنطق به الألسن. فالسؤال هو الذي يمزق كل الثياب التي يراد لها أن تخبئ الحقيقة، وأما النقد فهو المعول الذي يهد أركان الفساد في المجتمع.
2- جعل الكلام من السبل المؤدية إلى الفتنة: على الرغم من أن مجتمعاتنا منغمسة ومحاطة بالفتن، إلا أننا عندنا ثقافة تربط الكلام والاختلاف في الرأي وممارسة النقد وحتى الحوار بحدوث الفتن. فهناك فوبيا ثقافية من أن ترد علينا الفتن حتى ولو كان الأمر مجرد مناقشة عادية لقضية جانبية. نحن في حاجة إلى ثقافة ترفع تهمة الفتنة عن الكلام، فلا الحروب أولها كلام ولا الفتن يأتي بها الكلام، وإنما يأتي بالفتن والحروب هي ثقافة الكراهية وعدم احترام الآخرين، ما يأتي بالفتن ليس الكلام وإنما عدم الكلام؛ لأن الكلام المحبوس يتحول إلى طاقة سلبية وشحنة مدمرة، وهذه قد تعبر نفسها بغير الكلام والذي قد يكون ضارا لصاحبها وللمجتمع معا.
3- كثرة الثوابت وقلة المتغيرات: لعل أكثر ما استقوت به ثقافة الخرسنة هو أننا حولنا كل شيء حتى العادات والتقاليد والحوادث التاريخية والاجتهادات الفردية إلى ثوابت غير مسموح مسها أو التقرب منها. فكيف لا يكون هناك سكوت والمتغير المسموح بالحديث عنه هو قليل جدا، بل إن معظمه في طور التحول إلى ثابت والحديث عنه إن لم يكن محرما فهو من المكروهات. نعم الحياة لا تقوم إلا على ثوابت متينة تدعم الاستقرار الفكري والاجتماعي، لكن الثوابت هي في طبيعتها قليلة وعندما نضيف لها من عدنياتنا لنكثرها، فإننا سنجعل أنفسنا في النهاية في سجن ضيق لا يدخله نور لتطاول جدران هذه الثوابت.
4- كثرة الركون إلى الماضي: عندما تهتم الثقافة بجعلنا نعيش الماضي أكثر من الحاضر فليس هناك حاجة إلى الكلام. فكل ما نريد أن نقوله قد قاله الماضون منا. فمن لا يعيش الحاضر ولا يفكر في المستقبل يفقد الرغبة في الكلام، فثقافتنا عليها أن تحي الحاضر في نفوسنا وترجع المستقبل إلى اهتماماتنا حتى يكون هناك فعلا حاجة متواصلة إلى الكلام. فما أكثر ما هو موجود في الحاضر من قضايا ومشاكل وتحديات تثير الرغبة عندنا بالكلام، لكن عندنا ثقافة تجرنا جرا للماضي فتغيب عنا هذه القضايا وهذه التحديات وتختفي عندنا الرغبة بالكلام.
أخيرا، علينا ألا ننسى أن الإنسان هو حيوان ناطق، وعندما يكون غير ناطق يبقى مجرد حيوان، وثقافة الخرسنة هي فعلا ثقافة الحيوانات وليست ثقافة للبشر، فهل ما نشهده من تحولات سيكون فعلا نقطة البداية لإنتاج ثقافة جديدة وناطقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي