تصدير المياه إلى الدول الشقيقة والصديقة

يقول الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ ''وجعلنا من الماء كل شيء حي''. والماء هو الأكسير الذي بوجوده يسري في شرايين أي مجتمع نبض الحياة. فبوجوده يعيش الإنسان حياته اليومية وباستخدامه ينتج ويبني ويعمر الأرض كما أمر الرب ـــ سبحانه وتعالى ــــ بل إن أحد عوامل إنشاء المدن العظيمة هو قربها من المياه سواء كان بحرا أو نهرا أو بحيرة. وكلما كانت المدن أو السكان في أماكن بعيدة عن الماء انعكس ذلك على سلوكياتهم وتفاعلهم مع الحياة بجوانبها الاقتصادية والاجتماعية والنفسية كافة.
وعالم اليوم من الشرق إلى الغرب يبدي قلقا متزايدا على عدم وجود الكميات الكافية من المياه والتي تشهد تناقصا في مصادرها الطبيعية مما دفع العلماء إلى تطوير التقنيات التي تساعد في الحصول على المياه من مصادر ثانوية مثل معالجة مياه الصرف الصحي واستخدامه في كثير من دول العالم. ولعل أهمية موضوع المياه والقلق المتزايد من نقصها هو ما أدى بكثير من الاستراتيجيين العالميين إلى توقع قيام حروب وصراعات بين الدول والمجتمعات على مصادر المياه وكيفية استهلاكها واستثمارها. وإذا كانت الدول التي تتوفر فيها الأنهار العظيمة، وتشهد تساقط الأمطار بمعدلات مرتفعة تبدي قلقها، وبالتالي تتخذ كثيرا من السياسات والإجراءات التي تحفظ لها مواردها المائية وترشد استهلاكها له؛ فإن الصورة تصبح أكثر قلقا ورعبا عندما تتجه الأنظار إلى ما يسمى بالدول الصحراوية وعلى رأسها السعودية. إن موضوع المياه في المملكة من الأهمية، حيث يجب أن يوضع على قائمة أولوياتنا الاستراتيجية. بل إنه قد يكون في رأيي هو الهم الاستراتيجي الأول الذي يجب أن تسخر له الدراسات والإمكانيات والكوادر القادرة على إدارته بشكل مختلف عما نشاهده، وما نقوم به الآن من إهدار يصل إلى حد العبث الطفولي والاستنزاف الجنوني. كل منا – كبيرا وصغيرا ـــ يقوم بدوره في إضاعة هذا المورد وكأن المستقبل سيحمل لنا شيئا خارج السياق العقلاني مثل أن ننام ونصحو من نومنا وإذا الأنهار والبحيرات تزين صحارينا القاحلة.
إذا نظرت إلى بيوتنا وقصورنا ومنشآتنا فإنك تجدها محاطة بالحدائق والأشجار التي نسقيها من المياه الزلال المخصصة للشرب والاستعمال المعيشي. وليس ذلك فقط هو الكارثة بل إننا نستخدم الطريقة التقليدية المتمثلة في فتح حنفية الماء حتى ترتوي الأرض المزروعة ويفيض ما زاد على ما حولها من أراض وشوارع دون حسيب أو رقيب أو ضمير حي يؤلمه هذا الاستهتار وعدم الإحساس بالمسؤولية. سياراتنا ومنازلنا تشطف بالماء يوميا لأننا معنيون بالمظهر قبل الجوهر. أحدنا يستهلك من الماء أثناء الحلاقة ما يكفي عائلة لمدة يوم كامل في المجتمعات التي تعي أهمية وضرورة المحافظة على هذا المورد المهم.
أغلب مبانينا الحكومية والخاصة ـــ إذا لم تكن كلها ـــ لا تعترف باستخدام الوسائل الحديثة والمنتجات الجديدة القائمة على ترشيد استهلاك الماء أو إعادة تدويره لاستخدامات أخرى.
وإذا كنا أفرادا وجماعات، حكوميين وغير حكوميين لم نتعامل مع هذه النعمة الإلهية بما تستحقه من حفظ وصيانة فإن الجهات الحكومية المعنية بترشيد المياه وإدارته ما زالت تخاطب الجميع بخجل (أو خوف) عندما تطلب وتحذر وتوجه الجميع لخطورة استهلاكنا للمياه. ومع أن الماء غال ومهم بصفة عامة وهو قضية حياة أو موت لنا نحن المجتمع الصحراوي فإن سعره وتسعيره في مجتمعنا هو الأرخص من بين كل الخدمات والمرافق التي ندفع رسومها وأسعارها. فهل الأولى أن تكون أسعار المياه مرتفعة أم الكهرباء؟ إن الإجابة عن هذا السؤال على سبيل المثال توضح نظرتنا وتعاملنا وغياب التخطيط الاستراتيجي لشؤون حياتنا.
ومع أن قائمة سلبيات ممارستنا وسلوكنا المائي طويلة وتزخر بالكوارث والخطايا إلا أن قمة ذلك هي أننا لم نكتف بتبذير ثروتنا المائية بسلوكياتنا الخاطئة، بل إننا أصبحنا نصدر ماءنا على شكل منتجات للآخرين وكأننا دولة زراعية تبحث عن قوة ومركز بالاقتصاد العالمي بما تنتجه من منتجات زراعية مستهلكة للماء. لقد تعامل أشقاؤنا القريبون منا على وجه الخصوص مع هذه الغفلة الاستراتيجية وفتحوا أسواقهم لمنتجاتنا وأصبحت أسواقهم تمتلأ بالألبان والحليب والعصائر والورود وغير ذلك من المنتجات. لقد كانوا في قمة الذكاء بأن حافظوا على مخزونهم المائي وقالوا لنا أهلا وسهلا وكأن لسان حالهم يقول ''إذا جاك الرزق لا ترده''. إنه واقع مشاهد يدمي قلب كل من يعي خطورة وأهمية الماء في بلادنا وتناقص مخزونه بشكل يهدد مستقبلنا ومستقبل أجيالنا المقبلة.
لقد أصبح الأمر من الخطورة ما يستدعي إيقاف هذا التصدير غير العقلاني لأي منتجات تمتص دماء أرضنا وتجفف شرايين حياتها. لقد أصبح الوقت حاسما لإعادة سياسات استخراج المياه واستخدامه سواء من قبل الأفراد أو الشركات، فالأمر ليس بهذه السهولة التي يترك لعوامل اقتصادية تقوم على الربح السريع أو قوى ضغط تقف في وجه أي توجه إلى وضع المياه والتعامل معها على قائمة الفكر الاستراتيجي والأمن الوطني للمملكة. إننا في واقع مؤلم يقتضي ليس بحث أسبابه وإجراء الدراسات للتعامل معه بل إلى صدور أوامر كريمة من المقام السامي لإيقاف استنزاف المياه عن طريق التسعير الحقيقي للمياه ووضع الأسعار التي تحقق أهداف حسن الاستهلاك وإيقاف التبذير سواء كان استخداما محليا أو تصديرا خارجيا. وبالله التوفيق.

ماذا لو؟
ماذا لو أنشأت كل أمانة شركة بالشراكة مع القطاع الخاص تتعامل مع إعادة استخدام المياه وإعطاء هذه الشركات مميزات تفضيلية تضمن لها تحقيق الأرباح. ولنا في تجربة مدينة إسطنبول ـــ لمن أراد أن يستفيد ـــ خير مثال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي