المجتمع المدني في مصر .. أزمة الاستقلالية والتدخل الخارجي
منظمات المجتمع المدني أصبحت مصدرا للقلق والتوجس من جانب السلطات المصرية التي ضاقت به. وهو ما تجلى مثلا في الاتهام الذي وجهه في 20/7 اللواء حسن الروينى عضو المجلس العسكري لبعض المنظمات بالحصول على تمويل أجنبي وتدريب بعض عناصرها في صربيا (حيث مقر المخابرات الأمريكية في أوروبا).
ما حدث في مصر أخيرا من أزمة بين المجلس العسكري ومنظمات المجتمع المدني التي تعتمد في تمويلها على الخارج، وخصوصا من قبل الولايات المتحدة، يفتح الباب على مصراعيه حول طبيعة وأهداف التمويل الأجنبي، وخصوصا الشق المتعلق بتمويل العديد من المنظمات الأجنبية لمشاريع وأنشطة بعض جمعيات المجتمع المدني في الدول العربية. فقد ارتفعت، في السنوات الأخيرة، الأصوات المعارضة للتمويل الأجنبي للمجتمع المدني؛ لكون هذا التمويل يفقد منظمات المجتمع المدني استقلاليتها تجاه الدولة من جهة، وتجاه سياسات الدول المانحة للدعم مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا.. من جهة أخرى.
فقد شكلت قضية تمويل منظمات المجتمع المدني الحدث الساخن والمهم في مصر بعد سقوط نظام مبارك، حيث تسابقت الصحف المصرية في تناول الموضوع.
وذهبت صحيفة ''الشروق'' بحسب ما كتبه أخيرا المفكر المصري فهمي هويدي الذي رصد وحلل الحالة المصرية التي تبعت الضجة المثارة في الإعلام المصري حول قضية التمويل الأجنبي وزيادة الاهتمام بها إلى حد إبرازها في العناوين الرئيسة للصفحات الأولى في الصحف المصرية، وبحسب المصادر الصحافية فإن واشنطن قررت استدعاء رئيس مكتب الوكالة الأمريكية للتنمية في القاهرة جيمس بيفر، بعد عشرة أشهر فقط من تكليفه بالمهمة. ونقلت صحيفة ''وول ستريت جورنال'' عن مسؤول أمريكي قوله إن سبب الاستدعاء هو الاتهامات والجدل المثاران في القاهرة حول المساعدات الأمريكية لمنظمات المجتمع المدني. كما أن صحيفة ''لوس أنجلوس تايمز'' ذكرت في تعليق لها أن جهود الولايات المستمرة لتعزيز الإصلاحات الديمقراطية في مصر ''ينظر إليها بشكل خاطئ''. وأشارت إلى أن المجلس العسكري صور الجماعات التي تحصل على التمويل الأمريكي وكأنها تعمل لحساب حكومة أجنبية. وذكرت أن المجلس خاض معركة وراء الكواليس عدة شهور، لمنع واشنطن من إعطاء الأموال إلى الجماعات المؤيدة للديمقراطية خارج نطاق الإشراف المباشر للحكومة المصرية.
ومما لا شك فيه أن منظمات المجتمع المدني أصبحت مصدرا للقلق والتوجس من جانب السلطات المصرية التي ضاقت به. وهو ما تجلى مثلا في الاتهام الذي وجهه في 20/7 اللواء حسن الروينى عضو المجلس العسكري لبعض المنظمات بالحصول على تمويل أجنبي وتدريب بعض عناصرها في صربيا (حيث مقر المخابرات الأمريكية في أوروبا). فما ذكرته صحيفة ''لوس أنجلوس تايمز'' عن معركة ما وراء الكواليس صحيح، بحسب ما يشير فهمي هويدي لأن وزارة التضامن الاجتماعي وجهت في آذار (مارس) الماضي رسالة عبر وزارة الخارجية تحفظت فيها على الأنشطة التي تقوم بها وكالة التنمية الأمريكية في القاهرة. واستند التحفظ على أن ثمة اتفاقا بين القاهرة وواشنطن وقع عام 1978، ينص على ألا تمارس مثل تلك الأنشطة إلا من خلال القنوات الرسمية في مصر.
فالحالة المصرية في التمويل، وخصوصا الأمريكي منه تكشف عمق تغلغل المنظمات الدولية في المجتمع المدني المصري فبحسب مصادر قضائية مصرية فإن التحقيقات التي تجرى حول التمويل الخارجي لمنظمات غير حكومية مصرية، وأن التحقيق ما زال مستمرا، ويركز على التمويل الأمريكي لتلك المنظمات. وأوضح مصدر حكومي أن تحقيقا بدأته وزارة التعاون الدولي الشهر الماضي بعد أن أعلنت السفيرة الأمريكية الجديدة في البلاد آن باترسون أن بلادها وزعت 40 مليون دولار لمنظمات غير حكومية منذ اندلاع الثورة.
من جانبها، قالت السفارة الأمريكية في بيان إن الوكالة الأمريكية للتنمية (يو إس إيد) تسهم في حاجات التنمية المصرية منذ أكثر من 30 عاما، وأسهم دافعو الضرائب الأمريكيون طوال هذه المدة في تمويل برامج تنموية بقيمة تتجاوز 30 مليار دولار''.
وتابع البيان ''إننا فخورون بما أنجز وبشركائنا المصريين الوطنيين الذين عملوا معنا في كل لحظة''. وأضافت السفارة ''نعم، لطالما شملت برامج المساعدات الأمريكية تمويلا لتعزيز وتوسيع المجتمع المدني المصري بما فيه هؤلاء المصريون الشجعان الذين يناضلون من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان''. كما أكدت أن مساعدتها تستوفي ''أكثر شروط الشفافية صرامة'' وأنها لم تمول مجموعات سياسية. ووصفت هبة مورايف من منظمة هيومن رايتس ووتش التحقيق بأنه ''إطلاق حملة قمع محددة الأهداف وتصعيد خطير بعد أسابيع من انتقاد المنظمات غير الحكومية التي تتلقى تمويلا خارجيا''. وأشارت مورايف إلى أن القانون ''يحد من عمل المنظمات غير الحكومية التي تحتاج إلى إذن رسمي للتمتع بوضع قانوني، وأنه يستهدف المنظمات غير الحكومية التي يمنعها أمن الدولة من التسجيل''.
وينص قانون تم تبنيه في فترة حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك على حظر التمويل الخارجي للجمعيات، إلا إذا كانت مسجلة لدى السلطات، حيث يجب إطلاعها على تلقي المال. وأعلنت الولايات المتحدة أنها أعربت للحكومة المصرية عن قلقها حيال مشاعر مناهضة للأمريكيين تسود البلاد. وقالت المتحدثة باسم الخارجية فيكتوريا نولاند للصحافيين ''دعوني أقول إننا قلقون بشأن هذا الشكل من أشكال المعاداة للولايات المتحدة والذي يتسلل إلى الخطاب المصري العام''. وقالت ''لقد أعربنا عن تلك المخاوف للحكومة المصرية. ونعتقد أن تصوير الولايات المتحدة بهذا الشكل ليس دقيقا كما أنه غير منصف''. لكنها حرصت على تأكيد دعم واشنطن ''القوي للانتقال الديمقراطي في مصر'' منددة بالحملات الشخصية التي توجه للسفيرة باترسون.
يأتي ذلك في وقت أعلنت فيه السفارة الأمريكية بالقاهرة أن مدير (يو إس إيد) جيم بيفر غادر منصبه بمصر، إلا أنها نفت أن يكون ذلك بسبب وجود ''مشاعر معادية للأمريكيين''. بعد ساعات من مغادرة جيمس بيفر مدير مكتب هيئة المعونة الأمريكية القاهرة، وسط ضجة كبيرة حول التمويل الأمريكي لبعض الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني في مصر.
اعترف جيفري فيلتمان، مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية لشؤون الشرق الأدنى، بوجود خلافات حول هذا الموضوع مع القاهرة. مؤكدا أن الولايات المتحدة لا تريد التدخل في الشؤون المصرية. بينما أوضح مصدر حكومي مصري بارز أن أي تمويل أجنبي لمؤسسات مصرية ينبغي أن يخضع للقوانين المصرية وأن يكون معلنا ويتسم بالشفافية وتوضيح الجهة المانحة والمستقبلة وحجم التمويل والأنشطة المستهدفة.
وفي حديث خاص لـ''الأهرام'' قال فيلتمان: إن الولايات المتحدة لديها تاريخ طويل في مساندة المجتمع المصري، ولا نهدف من ذلك إلى اختيار فائزين من المتنافسين على الساحة، ولا نقدم حقائب أموال للأحزاب السياسية، بل نقدم فرص تدريب وبناء للقدرات تسمح للمصريين بالمشاركة في نظام أكثر ديمقراطية؛ لأنهم سيحددون وحدهم مستقبل بلادهم عبر صناديق الانتخاب.
وأشار إلى أن تغيير المسؤول عن المعونة الأمريكية في القاهرة أمر عادي يتم من وقت إلى آخر، موضحا أن تغيير الأشخاص لا يمس الموضوع الأساسي وهو مساندة عملية تحول ديمقراطي ناجحة في مصر.
وأضاف فيلتمان أن هناك الكثير من الأشياء التي لا نتفق فيها وهو ما يحدث حتى مع أقرب حلفائنا في العالم الغربي، ولا أريد أن أخدع قارئ ''الأهرام'' وأقول إن مصر في حكومة ديمقراطية ستوافق الولايات المتحدة على كل شيء، لكن نحن ندعم الشعب المصري وتطلعاته، ولدينا فرصة مفتوحة للاتصالات والتواصل ونسعى لتقديم مساعدات مناسبة وملائمة تحترم السيادة الوطنية المصرية؛ لأننا لا نريد التدخل في الشؤون المصرية.
من جهة أخرى، نقلت صحيفة ''كريستيان ساينس مونيتور'' الأمريكية عن أحد المسؤولين الأمريكيين قوله: ''إن برامج المساعدات الأمريكية تسعى إلى الحصول على أفكار من المصريين''، مؤكداً أن واشنطن تبذل جهدا كبيرا لمعرفة ما تحتاج إليه مصر في الوقت الراهن. وكشفت الصحيفة أن نحو 85 في المائة من التمويل الأمريكي لمصر ذهب بالفعل إلى منظمات أمريكية في مصر، مثل المعهد الديمقراطي الوطني، والمعهد الجمهوري الدولي، للمساعدة في دعم الأحزاب السياسية قبل الانتخابات.
وأشارت الصحيفة إلى إعلان الولايات المتحدة عن توزيع 65 مليون دولار على هيئة منح مباشرة للجماعات المؤيدة للديمقراطية في آذار (مارس) الماضي، أثارت ردود فعل غاضبة من جانب الحكومة المصرية، والمجلس العسكري.
ما حدث في مصر يعيدنا إلى المربع الأول والمتعلق بمخاطر التمويل الأجنبي التي يمكن حصرها في النقاط التالية:
1- ضعف استقلالية منظمات المجتمع المدني.
2- استغلال الدول الغربية للمجتمع المدني لتحقيق أهدافه السياسية والأمنية داخل الدول العربية.
3- هدم روح التطوع التي شكلت عبر التاريخ أساس التنظيمات المجتمعية التي عرفتها المنطقة العربية.
ومما لا شك فيه أن أهم مؤشرات فعالية المجتمع المدني هو استقلاله المالي عن كل شكل من أشكال السلطة السياسية والاقتصادية داخلية كانت أو خارجية. وأي استفادة له من التمويل كيفما كان حجمه ومصدره يسيء إلى استقلاليته. فأينما يوجد تمويل رسمي أو أجنبي توجد شروط يفرضها الممولون وأهداف غير معلنة يسعون إلى تحقيقها. وغالبا ما نجد منظمات المجتمع المدني في بعض الدول العربية تخضع لتلك الشروط بغية الحصول على موارد مالية لأنشطتها. كما أنها أصبحت تفضل القيام بالأنشطة التي تمولها الجهات الرسمية أو الأجنبية في مجالات مثل: حقوق المرأة، ومشاكل الهجرة، والإرهاب، والشباب،.. بدل القيام بأنشطة تستهدف الاستجابة للحاجيات المحلية لهذه البلدان. وهو ما يجعل هذه الجمعيات مجرد آليات لتنفيذ المخططات الاستراتيجية للأجهزة الحكومية والدول الغربية. وبالتالي لم يعد المجتمع المدني سلطة مستقلة تقف بين الفرد والدولة للحد من تعسفات السلطات العمومية وحثها على الاستجابة لحاجيات المواطنين.
ومن الناحية السياسية والأمنية، تستغل الدول الأجنبية إمكانياتها المالية لتحقيق أهداف سياسية، وثقافية داخل الدول العربية والنامية بشكل عام. ولف مختلف تنظيمات المجتمع المدني حول استراتيجيات تلك الدول. إضافة إلى ذلك، يعتبر التمويل الدولي آلية للتجسس وتتبع مواقف الفاعلين داخل الدول من سياسات الدول الأوروبية. ذلك أن أهداف الممولين الأجانب وإن كانت تتقاطع مع أهداف المنظمات المحلية، كما تقول المنظمات المستفيدة من التمويل الأجنبي، تنطوي على مخاطر استراتيجية كبيرة، من أهمها استغلال الممولين الأجانب للأنشطة التي تمولها من أجل تتبع تطور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للدول واستغلالها اقتصاديا وسياسيا وبشكل يضر بمصلحة الدول التي تستفيد منظماتها من التمويل الخارجي؛ لهذا أصبحت العديد من تلك الجمعيات، دون وعي، بعد انخراطها في عمليات التمويل الرسمي أو الأجنبي، تساعد الممولين الأجانب والرسميين في تحقيق أهدافهم بالنيابة وبتكاليف أقل.
أما المخاطر النفسية: فتتجلى في تلاشي قيم التطوع وهدم الروح الجماعية التي كانت هي دعامة المجتمعات العربية. وهي القيم نفسها التي كانت محركا لمقاومة الاستعمار أثناء الاحتلال. والنضال السياسي من أجل التحرر والديمقراطية وحقوق الإنسان فيما بعد. فبعض منظمات المجتمع المدني العربي لم تعد تؤطر المواطنين في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان بل تؤطرهم في كيفية البحث عن الممولين وطرق وضع المشاريع؛ مما حول المجتمع المدني من قوة إبداعية واقتراحية ومعارضة ومنتقدة إلى إطار لصرف الأموال الممنوحة، ومنفذة لمشاريع التغريب في المنطقة.