المخفي والمعلن في أزمة المجاعة الصومالية

التباطؤ الغربي في مواجهة أزمة المجاعة إنما يعكس وجود أهداف أخرى تتجاوز الوجه الإنساني للعمل الإغاثي الذي يحاول الغرب دوماً أن يتجمل به في حركته الخارجية تجاه الشعوب الفقيرة والنامية. وربما يعزز ذلك من الانتقادات الموجهة للحملة الغربية لإنقاذ الصومال واتهامها بأنها تنطوي في حقيقة أمرها على وجه لا إنساني.

عادت الصومال ومنطقة القرن الإفريقي لتحتل مكانتها في موقع الصدارة من اهتمام وسائل الإعلام الدولية. وقد باتت الصور النمطية التي يتم تداولها اليوم تتحدث عن معاناة الأطفال والنساء الذين أصابهم الوهن والهزال وهم يسعون للبحث عن الطعام دون جدوى. وفي المقابل يظهر عمال الإغاثة الغربيين وهم يستنهضون همم العالم الحر لتقديم العون والمساعدة لإنقاذ الجوعى والمحرومين من سكان شرق إفريقيا الذين أنهكتهم أنواء الطبيعة وقسوة الحروب الأهلية المدمرة. إنها مقابلة غريبة حقا حيث رسمت معالمها بإحكام لتبين للعالم أجمع الوجه الإنساني للغرب الذي يهرع لتقديم الغوث والمساعدة وقت الطوارئ والكوارث، بينما تبدو الصومال وجوارها في القرن الإفريقي وكأنها تعاني من الابتلاء الذاتي التي سببته موجات الجفاف المتكررة وارتفاع درجات الحرارة بشكل غير مسبوق. فما هي الأبعاد والدلالات الحقيقة لأزمة المجاعة في الصومال وجوارها؟ ولماذا لم تفلح جهود الإغاثة الدولية على مدى نحو نصف قرن في تحسين أوضاع الصوماليين وتجنيبهم مخاطر الجفاف ونقص الطعام؟

التباطؤ الغربي والدولي
لقد تصور البعض أن أمر المجاعة في الصومال قد جاء فجأة مع إعلان الأمم المتحدة جنوب الصومال منطقة مجاعة والتحذير من أن مخاطر الموت جوعا تهدد حياة نحو 12 مليون شخص في القرن الإفريقي. وطبقا لبعض التقارير الدولية فإن عشرات الآلاف من أطفال الصومال قد لقوا حتفهم جوعا منذ أوائل تموز (يوليو) 2011 فضلا عن وجود نحو 640 ألف طفل آخرين يعانون سوء التغذية. وقد طالب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون بضرورة توفير نحو 1.5 مليار دولار لمواجهة مخاطر المجاعة في القرن الإفريقي.
وتشير التقديرات كذلك إلى أن ما يطلق عليه فجوة الجوع Hunger gab في الصومال ستستمر حتى تشرين الأول (أكتوبر) المقبل. وإذا لم تتوافر الموارد اللازمة لمواجهة هذه الكارثة الكبرى فإن الأمور ستستمر في التدهور، وهو ما يعني مأساة إنسانية عير مسبوقة.
ورغم ذلك كله فإن أحداُ لا يستطيع القول بأن إرهاصات المجاعة في الصومال لم تكن معلومة أو يصعب التبوء بها. فثمة آليات يتم العمل بها دولياً للإنذار المبكر. ولعل أول إنذار لأزمة المجاعة الحالية في الصومال قد حدث في آب (أغسطس) 2010، حينما تم رصد موجة الجفاف من قبل ''شبكة نظم الإنذار المبكر للمجاعة''. وبمجرد التحقق من صحة تلك التقديرات ما فتئت هذه الشبكة الدولية في إصدار التحذيرات اللازمة. ومع ذلك فإن الاستجابة الدولية لم تكن أبدا على قدر المستوى الذي تنذر به الكارثة الإنسانية في الصومال.
واللافت للأمر أن استجابة القوى الدولية المانحة لم تصل حتى اليوم إلى مستوى وحجم الكارثة الإنسانية في الصومال ومنطقة القرن الإفريقي. ويبدو أن التفسير الأولي لهذا التباطؤ الدولي يعزي إلى تردد المانحين في تقديم العون والإغاثة إلى أن قامت المنظمات الأهلية الدولية ووسائل الإعلام المختلفة بالترويج لصور الكارثة والمطالبة بضرورة التدخل الإنساني العاجل. وأحسب أن ذلك التفسير ـــ إن صدق ـــ لا يسهم في حل أزمة المجاعة على الإطلاق.
ويرى بعض الباحثين أن هذا التباطؤ الغربي في مواجهة أزمة المجاعة إنما يعكس وجود أهداف أخرى تتجاوز الوجه الإنساني للعمل الإغاثي الذي يحاول الغرب دوماً أن يتجمل به في حركته الخارجية تجاه الشعوب الفقيرة و النامية. وربما يعزز ذلك من الانتقادات الموجهة للحملة الغربية لإنقاذ الصومال واتهامها بأنها تنطوي في حقيقة أمرها على وجه لا إنساني.

تسييس المساعدات وعدم فاعليتها
يمكن القول إن إحدى العقبات الكبرى لفشل نظام الإنذار المبكر في مواجهة أزمة المجاعة الصومالية ترجع إلى اعتبار المساعدات الإنسانية أداة سياسية لتحقيق مصالح وأهداف بعض الأطراف الفاعلة. وتظهر الحالة الصومالية بجلاء مدى تسييس سلاح المساعدات الإنسانية وذلك على النحو التالي:
أولاً: تنظر الإدارة الأمريكية إلى تنظيم '' الشباب المجاهدين'' الذي يسيطر على معظم أرجاء جنوب الصومال المنكوبة بالمجاعة باعتباره تنظيماً إرهابياً. وطبقاً لسياسة الولايات المتحدة الخاصة بمحاربة الإرهاب فقد تم وضع خطوط إرشادية صارمة لمنع وكالات الإغاثة من تقديم العون الإنساني في حالة وجود إمكانية لوقوعه في أيدي شباب المجاهدين أو مؤيديهم. يعني ذلك ببساطة شديدة أن الولايات المتحدة قد توقفت عن إغاثة المناطق الجنوبية في الصومال التي يسيطر عليها شباب المجاهدين.
ثانياً: اتخذت جماعة شباب المجاهدين موقفاً صارماً من منظمات الإغاثة الدولية حيث اتهمتها بالعمالة للغرب و قامت بطرد عدد من هذه المنظمات في عام 2009. وفي بداية الأزمة الراهنة أعلنت قيادة الجماعة أن إعلان الأمم المتحدة عن المجاعة في الصومال أمر مبالغ فيه وهو يسعى لاستخدام سلاح المساعدات بغية التدخل في الشأن الصومالي. و مع ذلك فإن بعض قيادات الجماعة قد عدلت أخيرا عن هذا القرار وقبلت بالتعامل مع منظمات الإغاثة الدولية.
أضف إلى ما سبق فإن ثمة انتقادات عديدة توجه لأعمال الإغاثة والمساعدات الإنسانية التي يقدمها الغرب لإفريقيا سواء تلك المتعلقة بسوء الإدارة وارتفاع التكلفة أو محاولة تنفيذ أهداف ومصالح سياسية معينة كما سبق وبينا. وتشير بعض التقديرات الدولية أن كل 13 دولارا يتم جمعها في الخارج لا يصل منها سوى دولار واحد فقط إلى إفريقيا، يعني ذلك ببساطة شديدة تبديد معظم أموال المساعدات قبل وصولها إلى مستحقيها.
وترى الصحافية الهولندية ليندا بولمان في كتابها المثير ''قافلة الأزمة'' The Crisis Caravan أن المساعدات الإنسانية تحولت إلى صناعة رائجة. فالعديد من منظمات الإغاثة الدولية أضحت تتنافس فيما بينها للسيطرة على المناطق التي تحدث فيها الكوارث بهدف الحصول على النصيب الأكبر من أموال الإغاثة. يعني ذلك أن تجارة المساعدات تؤدي في نهاية المطاف إلى إثراء الغرب وإفقار إفريقيا.
وعلى صعيد آخر يرى بعض الكتاب أن الخبرة التاريخية تشير إلى أن الصعوبات الواقعية في الصومال لم تنشأ من نقص في الغذاء أو المعونات المالية وإنما من عدم الكفاءة في توزيع تلك المساعدات، إضافة إلى عدم الاستقرار المزمن في البلاد. فانتشار الجماعات المسلحة في كل مكان وفرضها إتاوات على السكان، بل والاستيلاء عنوة على المساعدات الموجهة لهم، أدى إلى عدم فعالية عمليات الغوث الإنساني.

الصومال على طريق ''البلقنة''
لعل أبرز ما يميز أزمة المجاعة الراهنة في الصومال أمران لهما دلالة كبرى أولهما الغياب العربي الإفريقي عن إدارة أزمة المساعدات الإنسانية في الصومال. فالاتحاد الإفريقي الذي يعاني أزمة مالية وتباينا في المواقف السياسية لأعضائه لم يستطع إلا التبرع ببضعة آلاف من الدولارات، كما أن الجامعة العربية التي تعاني عجزا واضحا في ترتيب البيت العربي إزاء الثورات الشعبية المطالبة بالإصلاح والتغيير قد ملت من القضية الصومالية واكتفت بالأقوال وإصدار المناشدات والبيانات البلاغية.
أما الأمر الآخر فهو يشير إلى تغير المقاربة الدولية في التعاطي مع الأزمة الصومالية. فالدول الغربية باتت اليوم عازمة على إنهاء المرحلة الانتقالية في الصومال بحلول آب (أغسطس) 2012. وقد دعت هذه الدول المعنية بالأزمة الصومالية إلى مؤتمر تشاوري لإنهاء المرحلة الانتقالية من خلال حوار صومالي ـــ صومالي بين الحكومة الفيدرالية الانتقالية وبين الحكومات الإقليمية المستقلة مثل بونت لاند وكذلك الإدارات ذات الحكم الذاتي مثل جالمودوج.
ويبدو من القراءة الواعية هنا للمشهد الصومالي الراهن أن الدول الغربية التي استنفدت جميع الوسائل والمبادرات في الصومال بما في ذلك التدخل العسكري المباشر من خلال أثيوبيا قد وجدت في أزمة المجاعة وإدارة المساعدات الإنسانية مخرجاً حاسماً وعلاجاً ناجعاً لما أطلق عليه اسم ''المرض الصومالي''. فالتدخل الإنساني في ظل العجز العربي والإفريقي لن يكون إلا غربيا. وعليه يمكن الحديث عن إعادة صياغة جيوستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي قد تقبل في حالة فشل الاجتماع التشاوري لإنهاء المرحلة الانتقالية الاعتراف بوجود أكثر من كيان صومالي مستقل. وربما تبدو إرهاصات ذلك السيناريو واضحة ولا سيما أن الولايات المتحدة والدول الغربية لم تعد ترى في الحكومة الانتقالية بزعامة شريف شيخ أحمد الحليف الأوحد والمفضل، كما أنها قبلت بالتعامل الواقعي مع شباب المجاهدين لتوصيل المساعدات الإنسانية في جنوب الصومال.
وثمة مطالبات رفعتها الحكومة الصومالية الانتقالية بضرورة تشكيل قوات تدخل إنسانية لحماية طرق قوافل الإغاثة في الصومال وضمان تسليمها لمستحقيها. وربما يمثل ذلك ـــ إن حدث ـــ وسيلة ماكرة للالتفاف على قوات المعارضة الإسلامية والقبلية المناوئة للوجود الغربي في الصومال. عندئذ يمكن النظر لأزمة المجاعة وإدارة عمليات الإغاثة باعتبارها وسيلة لإعادة الصياغة الاتستراتيجية لمنطقة القرن الإفريقي.
ولعل المخاوف الحقيقية التي يسفر عنها التحرك الغربي الجديد تجاه الصومال تتمثل في الدخول لمرحلة تقسيم الصومال وبلقنته من خلال كيانات صغيره مستقلة. فهل يعي العرب الدرس السوداني حتى لا يتكرر سيناريو التقسيم والتفتيت على أرض الصومال الكبير؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي