انتحار القذافي

المتابع للأحداث الليبية هذا الأسبوع يشعر كأنه يتابع فيلماً بوليسياً، فالثوار يزحفون نحو العاصمة ويحيطون بها ويدخلونها من جهات عدة براً وبحراً، في الوقت الذي تفر فيه بعض كتائب القذافي ويستسلم البعض الآخر، ويسبق ذلك قصفا جوي لحلف الناتو، وتؤكد الأنباء اعتقال بعض أبناء القذافي مثل سيف الإسلام ومحمد، وتتحرر العاصمة إلا مساحة ستة كيلو مترات تمثل (باب العزيزية) المركز الدائم للقذافي، كما تتواصل الاعترافات بالمجلس الانتقالي من قبل عدد من الدول، ثم يظهر فجأة سيف الإسلام معلناً أنه يسيطر على الوضع في العاصمة وأن كل شيء (تمام)، كما واصل الناطق الرسمي لنظام القذافي مؤتمره معلناً دعواه لوقف إطلاق النار، كل ذلك في غياب تام لوالده القذافي، الذي اكتفى بمواصلة بث رسائله المحفزة للشعب للمقاومة حتى وصل عدد تلك الرسائل إلى رقم قياسي، فقد بلغت ثلاث رسائل يوم الأحد الماضي، ولو قدر لي أن أطلق على هذا الفيلم اسماً لسميته فيلم ''نهاية الاستخفاف''.
الكثير يعتقد منذ زمن أن عقلية القذافي غير مستقرة، فهو صاحب مواقف وتصريحات غريبة وعجيبة، وحكم البلاد بأسلوب عقيم، فهو زعيم وفي الوقت نفسه فرد من الشعب، وهو قائد تارة وملك تارة أخرى، وهو يسكن الخيام ولا يعيش في القصور وغيرها الكثير والكثير من المتناقضات التي كنا نشاهدها خلال الأعوام الماضية، ومع ذلك فإن هذا الشخص تمكن من حكم شعب مدة 42 عاماً. ولعل الكثير يتساءل: كيف استطاع رجل يحمل مثل هذه العقلية المضطربة أن يبقى طوال هذه الفترة في الحكم؟ وفي اعتقادي أن هذا الأمر يعود إلى الاستخفاف بالناس، فمن خلال الاستخفاف تمكن من عزل الناس عن الآخرين، بل عن كل وسائل المعرفة والتواصل فسيطر على عقلياتهم وتفكيرهم، وهذا ما كنا نراه، فليبيا على كبر مساحتها ووجودها في القارة الإفريقية، كانت أشبه ما تكون بصندوق مغلق لا يعرف الآخرون ما بداخله، لقد نشأ الشعب الليبي وعلى مدار أكثر من 40 عاما على منهج الترهيب وإخفاء الحقائق، أكثر من 40 عاما لم يحاسب أحد هذا القائد ولم يقف في وجهه ولم يأخذ على يده، ما جعله يستخف بشعبه، أكثر من 40 عاماً وهو يسمع التصفيق والهتاف باسمه ورفع صوره، بل حتى في وقت الثورة ما زالت فئة تعيش على ذلك الاستخفاف، أكثر من 40 عاما ومظاهر الخنوع والموافقة والولاء هي المظاهر السائدة بين أفراد المجتمع لذلك القائد. أكثر من 40 عاماً وفرد واحد يصنع شعباً كاملاً بدلاً من أن تصنع الأمة قادتها. شخص واحد وعلى مدى أكثر من 40 عاماً كان يردد لقومه ''ما أريكم إلا ما أرى''، ''ما علمت لكم من إله غيري''.
الذي يتأمل ما حدث من ثورات سابقة يؤكد أن ما أسهم في إطلاق هذه الثورات العربية إنما هو الدعوة إلى وقف الاستخفاف بالناس، فتلك الدعوة لوقف الاستخفاف بالناس كانت الشرارة التي انطلقت في تونس من خلال بوعزيزي، الذي أهين وهو يبحث عن عمل فكانت ثورة تونس ووقف الاستخفاف بالناس كان الشرارة التي أطلقت ثورة مصر واليمن وسورية، والمراقب للوضع يرى أن مصير تلك الثورات سيكون واحداً ألا وهو انتصار الثورة، التي تسعى إلى تأكيد حقوق الإنسان لنيل كرامته وحريته وزوال الطواغيت إما بالهرب وإما الاعتقال وإما الانتحار.
إن قيمة الدعوة لوقف الاستخفاف ليست هينة، بل هي من أعظم الجهاد، فهي كلمة حق في وجه سلطان ظالم مستبد، هي دعوة تبذل من أجلها الكثير والكثير من الأرواح، فقد كانت بالعشرات في تونس ومصر واليمن وبالآلاف في ليبيا وسورية، هي دعوة تراق من أجلها الدماء ويكون في سبيلها الاعتقال والسجن والضرب والتشريد، وهكذا هي الدعوات الغالية فلا بد أن يكون ثمنها غاليا مثلها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي