شبيحة الأسد.. الوجه الآخر للسلطة والدولة البوليسية

انقلاب قيم الدولة لمصلحة قيم الطائفة سمح بنشوء تكوينات فوق القانون لها سلطات استثنائية، كقوة الشبيحة، وحزب الله العلوي، وهو تنظيم علوي شيعي مواز لتنظيم حزب البعث الذي تحرص المؤسسة الأمنية على علمانيته، ويفصل الحزبي ولا يرقى إن شوهدت عليه إمارات التدين أو الصلاة أو رغب في أداء فريضة العمرة أو الحج، وحزب الله العلوي يقود المؤسسات الأمنية وفروعها ويسيطر على مرافق الاقتصاد السوري كافة، ويشرف على الاتصالات والعلاقات مع حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني، وفرق الموت العراقية.

علم الدولة علم مدني الطابع ولا يمكن له أن يستقيم دون أن تتكامل كافة مرافقه المدنية وأن تحكمه معادلات مدنية ومؤسساتية، وفي العالم الثالث علم الدولة ما زال مشوها، والدولة في طور نشوئها وتطورها، لكن البعض ما زال يعمل بمنطق ''أنا الدولة'' ومن بعدي الطوفان كما يحدث في ليبيا وسورية واليمن، والمجتمعات غير المدنية تؤمن وترضخ للمدنية بقوة القانون، لكن المدنية تربية وقيم وسلوك واعتراف اجتماعي وتنازل متبادل لأجل قيم الدولة التي تفرض نفسها بهذه القيم وبحكم القانون، وتمتلك شرعية القوة والقوة الشرعية في تطبيق القانون، ولهذا نجد أن القيم التقليدية أرسخ وأكثر تجذرا من قيم الدولة (الثورية) العربية، لأن هذه الدولة لم تحترم أصولها ولم تسع للمدنية، ولم تراكم تقاليد عمل مدنية وقانونية حقيقية، وبالتالي عندما تغيب القوة الضابطة يصبح المجتمع في شريعة غاب تسقط قيم الدولة (الهشة) وتبقى قيم وأخلاقيات المجتمع تحكم بالأعراف والعادات والتقاليد، كما حدث في العراق بعد زوال حكم صدام حسين وفترة فورة فرق الموت المدججة بالطائفية والقتل على الهوية، والتي كشفت عن مكنون غير عادي من حالات التشوه السلوكي والتعبوي والثقافي والديني المزيف والمؤدلج الذي ضخته إيران في الأحزاب الموالية لها، وعندما تواجه الدولة ضغوطا واحتجاجات اجتماعية فإن غياب الآليات المدنية وضعف الأطر الشرعية وبحكم أنها دولة تعمل بمنطق ''أنا الدولة''، فإن الحل الأمثل بالنسبة لها هو الحل الأمني، إفراط في القوة والقتل إلى درجة الاستهانة بأرواح الناس واعتبار المجتمع عبارة عن قطيع، وسياسة الدولة العامة مبنية على أن هذه القيادة شبه إلهية، وأن كلامها هو الحق والقانون والدستور، وأن على المجتمع أن يرضى بها وأن يهتف باسمها وألا يفكر بغيرها مطلقا وأن يتعايش معها ويرضى بما يصدر عنها وبمبرراتها أيضا، وأن يصفق لها، وأن يراها هبة الله لهذا الشعب، فتختزل إرادته وحقه في التعبير، ونظرا لكثرة الأجهزة الأمنية البالغة 16 جهازا أمنيا فإن المواطن بات محاصرا ويحدث نفسه ويشكك في نفسه ويعترف دون أن يرتكب خطيئة أو ذنب فقط لمجرد أن تفكيره بشكل مختلف.
هذا النمط من الدول والسلطات الحاكمة يعيش دائما على قلق كأن الريح تحته، يعيش في غربة داخلية، ليس بينه والمجتمع أطر للاتصال غير الأطر الأمنية، لأن بينه والمجتمع دما وثأرا ورفضا وسفرا طويلا من الاعتقالات والترويع النفسي والاقتصادي والأمني، وتعيش السلطة فوبيا الشعب وكأن هناك من يتربص بها، لأنها على قناعة تامة بأن هرم الدولة الاجتماعي والقانوني مقلوب وهرم الحقوق ليس له وجود، وأن الوجود مبني على التهميش والإقصاء وسحق الإرادة الوطنية، وتصنيع شعب كما الببغاوات يحاول أن يصرخ لكنه لا يملك القدرة على ذلك فيقدم فروض الطاعة (الله، سورية، وبشار وبس) لا وجود للشعب في قاموس الدولة، ولأن هذه النظم تعيش لحظة توجس أمني عالية فإنها أبدعت كثيرا في بناها الأمنية وأدواتها الأمنية واستخدمت كل شيء لتعزيز قبضتها الأمنية بشكل قانوني أو غير قانوني، ولأن العقل الباطن للمجتمع يستفز لكثرة عمليات القمع والمصادرة والمتابعة والملاحقة الأمنية وبكثرة التقارير والمخبرين والخارجين عن القانون كفرقة الشبيحة، ولهذا فإن المواطن يتلمس جوانبه دائما ويصبح كائنا حذرا لدرجة أنه يعد كلماته عدا ويختارها بعناية، خشية أن تفهم أو توظف على نحو سلبي، وهذا في علم النفس يؤدي إلى نكوص داخلي وثورة متوارية وغير معلنة وازدواجية سلوكية (وش للسلطة ووش مغاير لها) فانتعشت الحكايات عن القوة الرمزية للدولة وعن القيادة والأجهزة الأمنية، وانتعشت مقابلها السخرية على قاعدة (العصفور يرقص من شدة الألم) وهي تعبير مكثف عن المرارة التي يعيشها المواطن السوري ويختزنها داخله طيلة هذه الفترة، وقد ظهرت معالم السخرية هذه بكثرة في فترة الأسد الابن، لأن المجتمع السوري ضاق ذرعا وبدا لا يخشى السلطة وبدأت المقاومة العكسية، وإن أبدت السلطة تغييرا طفيفا في منهجها، لكنه ليس من عادة السلطات البوليسية والأمنية ولا من سلوكها أن تتحول من خشنة إلى لينة كونها لا تملك القدرة على تغيير جلدها، لأن التغيير ثقافة وتربية ومنهجية سلوكية ومنهج جديد.
والمجتمع السوري له تاريخ اجتماعي مديني واقتصادي وإنتاجي تصنيعي قديم، ولديه إمكانات ومهارات عملية تمكنه حال استثمارها من جعل سورية دولة مختلفة لا متخلفة إداريا يحكمها الفساد المالي والإداري والسياسي، وهذا التدمير الممنهج وحصر لقمة عيش المواطن السوري في الدولة ورضاها عنه وتزلفه لها كانت عملية طويلة من التربية العبثية والاستئصالية، جعلت المواطن السوري وكما يؤكد مفكر سوري كما (الحمير) هدفهم الأول والأخير كيفية تأمين مصدر رزقهم من المأكل والمشرب والملبس على حساب منظومة القيم والكرامة المطعونة والمجروحة، وجعلت أسباب الحياة ممكنة إن دخلت في نطاق دائرة الفساد المنظم، ابتداء من التشبيح وصولا إلى بيع أصول الدولة، والتجاوز والتطاول عليها لأن الطائفة والقريبين منها هم فئات فوق القانون وترغب أن يكون الجميع شبيها لها.
ومنذ عام 1982 اكتشفت القيادة السورية (عائلة الأسد) أن حزب البعث مجرد يافطة وتنظيم ملحق بالمؤسسة الأمنية السورية، وخادم للسلطة وأداة لها لا أكثر، وأنه لا يحظى بالشعبية والجماهيرية وسط الشعب السوري، وأن الانضواء تحته كان مبعثه الحصول على مكاسب السلطة ومنافعها، وأن المخابرات الخاصة مقتنعة تمام القناعة بأن 45 في المائة من التنظيم لديهم قابلية للانشقاق والتحول بعدما أصبح الحزب ملجأ للعجزة والأيتام، لكنه كان إطارا تعبويا وشكليا يظهر معالم قومية وعروبة السلطة وهي عروبة سياسية تم امتحانها في مجالات عديدة اتضح أنها عروبة مزيفة ومطعون في صدقيتها كونها كانت خادمة للسلطة وخادمة لتوجهاتها وعلاقاتها الخارجية، وكيف أنها عمدت إلى إفراغ سورية من مضمونها العام لترسيخ وجودها، فكان تحالفها مع إيران الصفوية تحالفا دينيا تم تعزيزه في عام 1996 عندما توجت التفاهمات الاستراتيجية مع طهران، لتصبح الطائفة العلوية في سورية جزءا من الاثني عشرية وتتبع مرجعية قم، وعندها فتحت أبواب سورية على مشراعيها للتدخل والعبث الإيراني.
لم تجد الدولة العربية (الثورية) بداً من أن تبيع الوهم على شعوبها ومجتمعاتها مرة بالتحرر والتحرير والصمود والتصدي وصولا إلى المقاومة والممانعة ومحاربة الإمبريالية والصهيونية، وهذا الوهم له حزب يدعي الدفاع عن الوحدة والحرية ويدعي ارتباط العروبة بالإسلام ارتباطا حيويا، لكنه تنازل عن الإسكندرون، وتنكر للعرب بالتحالف الاستراتيجي مع الصفوية الفارسية وأبقى سورية والجيش السوري حبيس أدراج السلطة، ورهن سورية وشعبها طيلة أربعين عاما باسم دولة الممانعة والمقاومة العربية، بينما لم تطلق وحدات الجيش السوري طيلة أربعين عاما طلقة واحدة باتجاه فلسطين والجولان السورية، بقدر ما استخدم الجيش السوري كأداة لفرض سلطته على سيادة لبنان وتخريب الدولة اللبنانية وجعلها تابعة للباب العالي السوري، حد الاستباحة.
عطل إمكانات وقدرات الشعب السوري، ووظفها توظيفا برخص لدعم سلطانه وحكمه فألغى القبلية والعشائرية وهمش المشاعر الإسلامية بحجة الدولة العلمانية، ودعا شبيحته للقصاص من مواطنين وعسكريين رفضوا إيذاء أبناء جلدتهم وأجبرهم على القول (لا إله إلا بشار وماهر الأسد) في روح انتقامية تعكس حالة من الخوف الرهيب تهدف كسر الروح المعنوية للشعب السوري، لكنه فتح سورية عن بكرة أبيها لإيران ومؤسساتها وفقا لمخطط استراتيجي بعيد يؤسس لهلال شيعي (إيراني- عراقي- سوري- لبناني)، ويروي السوريين أن طهران قبلت عدم استرداد الديون على سورية وجعلتها مصروفات لخدمة التغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي في سورية .
لهذا انتشرت مؤسسات التشيع في كل المدن السورية، ويذكر أحد أبناء حلب أن عبد الصاحب الموسوي صاحب مؤسسة آل البيت في حلب وممثل الحرس الثوري اشترى أراضي كثيرة في حلب ودعم العديد من الشخصيات التي تشيعت بالمال والسلاح والحضور، وأنه عمل على إنشاء حسينيات وكلية للشريعة، وجعل قرية أهالي الفوعة الشيعية الصغيرة، مسيطرة اقتصاديا وإداريا على العديد من المناصب في هذه المحافظة، وافتتح مكتبا للتدريب بدعم من الحرس الثوري ومن حزب الله، ولم يقتصر ذلك على حلب بل شمل درعا ودير الزور والحسكة، ويشرف جميل الأسد وأبناؤه على عمليات التشيع تحت إطار جمعية الإمام المرتضى التي قيل إنها أغلقت لكن العمل ظل كما هو عبر تمويل خاص من إيران، في وقت تصدر الإحصاءات السكانية السورية وهي خاضعة لإدارة المخابرات أن عدد السنة في سورية لا يشكلون 45 في المائة في محاولة مكشوفة لتزوير التاريخ.
وفي الرقة أنشأ الإيرانيون ما يشبه كلية الشريعة يدرس فيها الطلاب الأسس والمبادئ، ثم يرسل النابغون منهم إلى مدينة قُم ليتخرجوا منها دعاة للسياسة الإيرانية، وأن تبني الدولة السورية عملية التحول التدريحي الاجتماعي الديني من مذهب الأكثرية السنية إلى التشيع كان سببا من أسباب الصراع والنزاع الحالي خاصة عندما تعمدت وتقصدت السلطة أن يكون التشيع في مناطق العصبة العشائرية والقبلية، وهو أحد أسباب تفجر الأزمة في درعا ودير الزور لوجود معسكر تدريب ودعوة إيراني قرب هاتين المحافظتين، إضافة إلى تجفيف معاهد العلم الشرعي (السنية) لمصلحة الشيعية.
انقلاب قيم الدولة لمصلحة قيم الطائفة سمح بنشوء تكوينات فوق القانون لها سلطات استثنائية، كقوة الشبيحة، وحزب الله العلوي، وهو تنظيم علوي شيعي مواز لتنظيم حزب البعث الذي تحرص المؤسسة الأمنية على علمانيته، ويفصل الحزبي ولا يرقى إن شوهدت عليه إمارات التدين أو الصلاة أو رغب في أداء فريضة العمرة أو الحج، وحزب الله العلوي يقود المؤسسات الأمنية وفروعها ويسيطر على مرافق الاقتصاد السوري كافة، ويشرف على الاتصالات والعلاقات مع حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني، وفرق الموت العراقية، والشبيحة فرقة مكونة من 45 ألف علوي جرى تدريبهم في معسكرات خاصة ومنظمين كالمافيا الإيطالية لهم معسكراتهم وسجونهم، وغالبيتهم بلا تعليم، وقياداتهم عملت في المخابرات السورية، فهم القوة السرية للنظام السياسي (الحرس الثوري العلوي)، وتدريبهم شمل كافة تدريبات الجيش والميليشيات غير النظامية، واستخدمت في عمليات الاغتيال والقتل والتخلص من المعارضين وممن يصدر بحقهم أوامر الإقصاء السياسي، فيتم تعمد الاصطدام بهم بشكل عفوي، وصولا إلى مرحلة فرض استحقاقات وكلف مالية باهظة، وأحيانا نسب مفروض قسرا، واغتصاب وإهانة ومصادرة وزج في السجون، وللشبيحة قيادة خاصة وإدارة مالية خاصة بهم ومركز معلومات وتخطيط مرتبط بماهر الأسد شقيق الرئيس السوري ومؤسسة للتعبئة الدينية وإذاعة، وترتبط قوة الشبيحة بقيادة حزب الله العلوي، وهي إحدى أدواته الشرسة وقوته المقاتلة، وهم منقسمون إلى خمس وحدات: الأولى قوة الصفوة ومهمتها التخطيط والسيطرة على المراكز القيادية في الدولة والمجتمع، ووسائل الثقافة والإعلام، والثانية قوة أمن المعلومات وهي تعمل بنظام الاستخبارات وتسيطر على الأجهزة الأمنية وقياداتها، والثالثة قوة التدخل السريع وهي قوة خاصة مدربة وتسيطر على الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والثالثة لها سيطرة على قيادات الجيش السوري، والرابعة قوة السيطرة ومهمتها فرض الهيبة والقوة خارج القانون ومهمتها القيام بعمليات التهريب المنظم وغسل الأموال وعمليات التصفية، والخامسة قوة الإعداد والتنظيم ومهمتها متابعة شؤون الطائفة العلوية ومتابعة أعمال التشيع ومؤسساته ورموزه وتسيطر على مرافق وزارة الداخلية وهي المسؤولة عن تجنيس ما لا يقل عن مليوني شيعي عراقي وإيراني غالبيتهم من رجال الدين والحرس الثوري وفرق الموت العراقية.
وللشبيحة سجونهم ومراكز اعتقالهم الخاصة ويسيطرون على المنافذ الحدودية وعلى ميناء طرطوس واللاذقية، وغالبية اقتصادات الاستيراد والتصدير المارة عبرهم لا تخضع للجمارك، وكان في السابق مجرد قطع الكهرباء يعني أن شحنة تهريب قد دخلت أو خرجت لكن اليوم تمر الأمور على الأضواء الكاشفة وفي وضح النهار، ويتدخلون في حسم القضايا في المحاكم لمصلحة طرف يدفع مبالغ مالية ضخمة وأحيانا يقبضون ثمن وشاية كفيلة أن تؤدي بصاحبها إلى قضاء سنوات طويلة في السجن، أو يطلب منهم الزواج من ابنة شخصية معروفة فيتم اعتقال أحد الأبناء وتوجيه تهمة له وتتم المفاوضات والتنازلات ويتدخل الراغب في الزواج لحل القضية مقابل زواجه من ابنة هذه الشخصية، وكل ذلك بمبالغ مالية، وخطف البنات من المعاهد والجامعات السورية.
ونشأة الشبيحة كانت لأغراض التهريب في منتصف السبعينيات وأيضا قتل المعارضين اللبنانين والعرب، والتخلص من المثقفين والسياسيين اللبنانيين، وكان لها دور غير مباشر في توطين وتجنيس 300 ألف علوي في لبنان بعلاقات زواج ومصاهرة مع الطائفة الشيعية في لبنان بهدف المساهمة في قلب التوازن المذهبي في لبنان لمصلحة الشيعة، وازدهرت منظمة الشبيحة لتصبح فرقة عسكرية غير نظامية مؤمنة بأن سورية تعني الأسد والأسد يعني سورية ولا شيء غير ذلك.
والشبيحة مفهوم سوري تقليدي قديم يفرق عن القبضاي الذي يمتاز بأخلاقيات أهل الحي وحريص على أمن وسلامة مواطنيه ومعروف عنه عضلاته المفتولة، ويجري أحيانا استخدامه لتأديب الخارجين عن القانون، وهي ظاهرة وجدت في مصر قديما تعني فتوة الأحياء والمراكز والتي اتخذها التجار وبيوت الدعارة مصدرا للحماية بمقابل. وفي سورية برزت هذه الظاهرة في الملاهي الليلية على نحو أوضح وتم تأطيرها وتنظيمها بعد التدخل السوري في لبنان في منتصف السبعينيات، لكنها بعد خروج الجيش السوري من لبنان جرى تجميعها وإعادة توظيفها للقيام بمهمات داخلية قذرة.
عندما تلجأ الدول إلى أن تكون لديها قوة احتياطية غير نظامية ولا تمتلك شرعية قانونية، وليست لها أخلاقيات المؤسسة، وتكون مهماتها قذرة، فإن هذا يعني أولا أن الدولة تعيش هاجسا أمنيا داخليا، وتمر بمرحلة الإفلاس الأخلاقي والسياسي وأنها ستواجه حتما استحقاقات داخلية كبيرة، والأمر الثاني أن السلطة تدرك حقيقة عدم التوازن في هرم السلطة السياسية أقلية علوية تحكم أكثرية سنية، ولهذا كان التحالف الاستراتيجي مع إيران بهدف تغيير معالم التوازن الديني في سورية لصالح الطائفة التي لا تشكل 5 في المائة من مجموع السوريين، وهنا يتساءل رئيس جمعية حقوق الإنسان السورية هيثم المالح في تصريحات لـصحيفة ''الرأي العام'' الكويتية يوم الأحد الأول من أيار(مايو) الحالي عن ''نشاط العديد من الشيعة الإيرانيين على الساحة السورية بدءا من مركز السيدة زينب إلى منطقة الجزيرة السورية مروراً بوسط سورية بخاصة حول حماه''، وقال: ''في وقت تتم في هذه المناطق فتح الحوزات وإجراء الاجتماعات وممارسة وسائل عديدة في اتجاه صرف أهل السنة والجماعة عن مذهبهم إلى التشيع على الطريقة الإيرانية، تنشط الأجهزة الأمنية بلا كلل، لتعقب كل من تسول له نفسه أن يستقبل بعض أصدقائه أو معارفه سواء كانوا رجالاً أم نساءً لتدارس القرآن الكريم أو السنة النبوية، ويجري بصورة دورية استدعاء أئمة وخطباء لممارسة سادية القمع عليهم لإخافتهم، ومن ثم تتم اعتقالات واسعة في هذا الطيف تحت ذريعة السلفية أو الوهابية وما سوى ذلك، ويجري منع الصلاة في بعض قطاعات الجيش ومراكز الأمن خلافاً للدستور والقانون'' وهنا نتساءل ''هل هذه الازدواجية في تعامل الأجهزة مع الشرائح العديدة من التيار الإسلامي، محض صدفة أم إن وراء الأكمة ما وراءها؟ وهل نستطيع أن نستشف أن هناك اتفاقاً ضمنياً بين الدولة الإيرانية والنظام في سورية، لوضع التسهيلات أمام الوافدين من إيران بغية مد جسور الثورة من هناك إلى المجتمع السوري وتحويله من السنة إلى التشيع على الطريقة الإيرانية''؟ (من مقال لحسن الرشيدي: الأسد يعمل على تشييع سورية).
وهنا أرجع إلى أمرين الأول أن الرئيس الأمريكي جورج بوش كان مزمعا على النيل من نظام الرئيس بشار الأسد بعد احتلال العراق، غير أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك أكد له أن مجرد خروج الجيش السوري من لبنان إلى سورية سيؤدي بالمحصلة إلى حالة صراع تؤدي إلى انهيار داخلي، وتسهم بالمسارعة في عملية انتهاء النظام السياسي وتفتيته من الداخل، وكانت نظرة شيراك معاكسة لنظرة بوش بأن مجرد الادعاء بأن الرئيس بشار الأسد مقبل على إصلاحات سياسية فإن الإقدام على خطوة مثل ذلك ستكون كفيلة بانهيار النظام الأمني، لثقل التركة الأمنية وتركة الفساد الذي تعيشه سورية، والأمر الثاني أن هناك من المحللين من يرى أن ثمة أسبابا وراء اعتماد دمشق للخيار الأمني كحل وحيد، وتسويفها لعملية الإصلاح الحقيقية وجعلها مجرد وعود لعل من بينها قناعة النظام السياسي بأن الإصلاح الحقيقي سيؤدي بالمحصلة إلى انهيار الدولة الأمنية، ويؤدي إلى وأد وتفسخ مشروع تحويل سورية إلى دولة شيعية. واللافت للانتباه هو الدعم الاستثنائي الإيراني والعراقي واعتبار دمشق خطا أحمر وأن ما يجري في سورية شأن داخلي. وبحسب استطلاع لـ ''واشنطن بوست'' أن قوة الشبيحة اغتصبت بنات سوريات في منطقة جسر الشغور، وفي بلدة السومرية جرى اغتصاب أربع شقيقات من قبل مجموعة من قوة الشبيحة، ونظرا لأن الأوضاع انتقامية على ما يبدو فقد أدى هذا السلوك إلى إحداث تغيير في قيم وسلوك المجتمع السوري نفسه عندما تقدم عدد من شباب جسر الشغور والسومرية بطلب الزواج ممن تم اغتصابهن لرفع الظلم عنهن وعن أهليهن، وقال أحدهم لـ ''واشنطن بوست'' :''لقد شعرنا بالجنون عندما سمعنا ذلك، هل هناك مثل هذا الظلم؟ لقد قررنا أن نتزوجهن''، كانت هذه هي كلمات إبراهيم قيس، وهو خباز يبلغ من العمر 32 عاما من جسر الشغور التي اجتاحتها قوات الأمن.
ولأن النظام الأمني يكرر نفسه فقد كانت بداية الثورة من مستصغر الشرر، لكنها في ظل عنجهية النظام واستبداده، وتكبره وضربه عرض الحائط بقيم وأخلاقيات المجتمع السوري، جعلته يسقط في امتحان احترام كرامة وقيم المجتمع الذي اعتاد تهميشه والتعجرف عليه وإقصاءه والاستهانة به، فعندما خرج أطفال درعا ليرددوا ليسقط ويرحل النظام، توجست القيادة السورية خيفة وعاشت ليالي من القلق والحرمان، واستعجلت القول إن سورية مختلفة عن تونس ومصر وليبيا، وتعاملت مع الأطفال بكل حدة من ضرب وخلع للأظافر وسمل للعيون، وازدراء لقيم وكبرياء العشائر عندما قال مدير الأمن السياسي في درعا عاطف نجيب ابن خالة الرئيس السوري بشار الأسد وبحضور محافظ درعا فيصل كلثوم، قال لوجهاء درعا الذين توسطوا لإطلاق سراح أطفالهم: (انسوا أولادكم وروحوا ناموا مع نسائكم وأتوا بأولاد غيرهم)، وأضاف: (إذا ما بتستطيعوا تناموا مع نسائكم جيبوا لنا النساء نحن ننام معهن).
وهنا تتجسد الفروقات بين قيم الدولة المدنية وقيم الطائفية الضيقة؛ قيم الدولة البوليسية التي تستشعر الخطر الكامن في شعبها، وفي إمكانية حصوله على الحد الأدنى من الكرامة، وهل أبلغ من هذا الفجور وهذا الاستهتار بقيم وأعراض الناس، وهل هيبة الدولة وكرامتها وقيمتها منفصلة عن هيبة المواطن وكرامته؟ وهذا طبعا ما تفتقده دولة الشبيحة.
ما يجري في سورية اليوم يعيد إلى الأذهان قصة الصراع العثماني الفارسي التاريخي وبطبعته الجديدة، ويعيدنا إلى تلك الحكاية التاريخية التي تؤكد أن شيعة الأناضول لم يرتدعوا مما أصابهم بعد خيانتهم لسليم الأول، فبعد رحيله مباشرة وبعد تعيينه ابنه سليمان القانوني قاموا بثورات عديدة عليه وكان منها ثورة بابا ذو النون سنة 932 هجرية وثورة قلندر جلبي سنة 933 هجرية في كونيه (بلدة أحمد داوود أوغلو) ومرعش وبلغ عدد أتباعه نحو أربعين ألفا، وكان شعار ثورته (اقتل سنيا واهتك حرمته تدخل الجنة)، والسؤال: هل يعيد التاريخ نفسه اليوم في سورية وفي الفضاء ثمة صراع فارسي تركي؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي