الترفيه عمل وليس مضيعة وقت

العمل هو صلب العملية الإنتاجية فعن طريقه يتم توفير الاحتياجات الإنسانية من غذاء ودواء وكساء ومنتجات متعددة تحقق للإنسان رغد العيش وترفع من معدلات سعادته في الحياة الدنيا، بل إن العمل يقدم أحيانا على العبادات، ولنا في تاريخنا الإسلامي خير مثال عندما سأل الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن رجل متواجد بصفة مستمرة في المسجد وقال كيف يؤمّن معيشته فأخبروه بأن له أخا يسعى في جلب الرزق لهما، فقال: أخوه خير منه.
وفي عصرنا الحديث الذي أخذت فيه العملية الإنتاجية أبعادا وتعقيدات لم تكن معروفة أصبح العمل يخضع لنظريات وأبحاث وبرامج تهدف إلى تحسين كفاءته وزيادة معدلات مخرجاته ولم يعد مبدأ قضاء الساعات الطوال في العمل هو الغاية كما كان في العصور السابقة التي وصل فيها الأمر إلى استخدام وممارسة السخرة والعبودية. لقد تطورت نظريات وممارسات الإنتاج والعمل إلى آفاق جديدة تقوم في جزء أساسي منها على توفير الراحة وزيادة معدلات السعادة لدى العاملين. وأصبحت الشركات والمنظمات تدخل في ميزانية تكاليفها مصاريف ونفقات الترويح والترفيه لكافة منسوبيها. ولعل مثال ما تقوم به بعض الشركات اليابانية خير دليل، حيث ترسل موظفيها إلى منتجعات سياحية عالمية خارج اليابان إيمانا منها بالفوائد التي ستعود عليها بعد عودتهم وقد تحسنت نفسياتهم وارتفعت روحهم المعنوية، بل إن معظم الشركات والمنظمات تجبر منسوبيها على التمتع بإجازاتهم ولم يعد العامل أو الموظف الذي لا يأخذ إجازته هو المثال الناجح والمقدر في المنظومة الإدارية. كما أن قضاء أوقات في الترفيه والترويح لم يعد مضيعة وقت. وبالتمعن في تاريخنا الإسلامي نجده سبق الآخرين في هذا الجانب، حيث يحثنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - على أهمية ترويح القلوب ساعة بعد ساعة حتى لا تكل.
وتوافقا مع هذه التطورات في نظرية العمل فقد ارتفع متوسط الإجازات السنوية للفرد في هذا العصر إلى معدلات لم تكن معروفة أو متوقعة، وكان الحديث عنها في السابق ضربا من العبث وإهدار للموارد. إذاً نحن في عصر جديد ومفهوم متطور لعدد الساعات التي يجب أن يقدمها العامل للمنظمة التي يعمل لديها، سواء كانت في القطاع العام أو القطاع الخاص. وكذلك نحن أمام واقع جديد يحتم توفير الترفيه.
وإذا نظرنا إلى واقع الترفيه الجمعي المنظم والفعال في المجتمع السعودي نجد - حسب رأيي - شحا ونقصا قد يوصله إلى العدم. فغالبيتنا تدور ساعات يومه بين العمل والمكتب يضاف لها بعض الالتزامات الاجتماعية؛ ولذا نجد العاملين في القطاعين العام والخاص يدخلون ويخرجون يوميا إلى مقار أعمالهم بتثاقل بدني وإرهاق نفسي ويعدون الأيام انتظارا لإجازة سنوية تعوضهم عن الترفيه بالسياحة. وهنا يجب أن نوضح أن السياحة ليست بديلة عن الترفيه اليومي والأسبوعي المطلوب. فالغايات والأهداف ومعظم النتائج مختلفة بين النوعين. إن محاولة الربط بينهما كأنهما كيان واحد يمكن استخدام مصطلح أحدهما محل الآخر فيه ظلم للإنسان السعودي وتعدٍ على حقوقه. فالسياحة هي خيار متاح لمن يرغب ويقدر عليها، بينما الترفيه اليومي والأسبوعي هو حق يجب على الجهات المعنية توفيره و''حمايته''.
يجب على جهات التخطيط والتنفيذ في منظومتنا الإدارية إعطاء هذا الموضوع ما يستحقه من عناية ووضع أوقات الترفيه ونوعيته ومدى توفره جزء من برامج التنمية والعمل لدينا وألا نترك حياتنا اليومية تزداد تصحرا يوما بعد يوم ونحول أجسادنا كما هي أشجارنا إلى جذوع يابسة تتكسر وتندثر. إن أجسادنا في حاجة إلى مياه ترفيهية تحييها حتى لو كانت مياها مستوردة من ديزني لاند أو فيراري أو غيرها من شركات تفهم معنى ومحتوى الترفيه وتقدمه بمعايير وأسس تحقق ما نصبو إليه من ترفيه حقيقي.
وإذا سلمنا جدلا بتوافر حد أدنى من الترفيه (الحقيقي) في أربع أو خمس مدن سعودية يشكر من قدمه فإن معظم مدننا وقرانا لا تعرف ذلك، بل إنها لا تحلم فيه في المستقبل القريب لظروف ومعطيات، أهمها أن الترفيه ليس من أولويات الإدارة التنموية لدينا، بل ينظر إليه على أنه من الكماليات. وقد يصل عند البعض إلى مفهوم مضيعة الوقت والموارد.
إنها دعوة صادقة إلى إعادة فهمنا للترفيه وموقعه من نظرية العمل والإنتاج وعدم الخلط بينه وبين احتياجاتنا السياحية. وهي كذلك مطالبة بعدالة توزيع منتج الترفيه وتمكين كافة أجزاء الوطن منه؛ انطلاقا من أنه أصبح اليوم حقا من حقوق الإنسان المعيشية.

ماذا لو؟
ماذا لو تبنت الهيئة العامة للسياحة والآثار كخطوة أولى برنامجا وطنيا للترفيه (مثله مثل الصناعة أو الاستثمار) يقوم على إنشاء منشآت ترفيهية بمعايير عالمية تغطي كافة مناطق المملكة. ويكون ذلك بتحفيز القطاع الخاص السعودي واستقطاب الأسماء المعروفة عالميا في هذا المجال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي