الثورة الليبية وتحديات بناء الدولة

المأمول من أي حكومة ليبية جديدة الاستفادة من المهارات الإدارية والتقنية الكبيرة لموظفي الخدمة المدنية في ظل نظام القذافي. وبالطبع سيكون على هؤلاء الموظفين ضرورة التكيف مع الواقع الجديد والعمل في إطار حكومة ثورية تمثيلية تحقق تطلعات وآمال الشعب الليبي. ولا يخفى أن الاستعانة بهذه الخبرات الليبية سيكون من شأنه تعويض النقص في صفوف العناصر الثورية التي قادت الثورة ضد نظام القذافي، وهو ما يساعد على استمرار قوة الدفع الثوري في البلاد.

إنه يوم سعيد حقا بالنسبة لأحرار ليبيا وثوارها الذين تمكنوا من دخول حصن باب العزيزية فاتحين ومعلنين انتهاء ظاهرة "الأخ العقيد" إلى الأبد. وبغض الطرف عما روي عن هذا المقر الحصين الذي اتخذ منه القذافي وعائلته قاعدة لبسط النفوذ والهيمنة على دولة الجماهير الزائفة، فقد ظل الأمر في الإدراك الليبي العام لغزا محيرا. فمن قائل إن هذا الحصن الطرابلسي يستعصي على السلاح النووي. وهناك من زعم أنه يحتوي على سراديب وأنفاق تحت الأرض يصعب الوصول إليها.
على أن السهولة النسبية التي ارتبطت بالانهيار السريع لهذا المقر الأسطوري على أيدي مقاتلي كتيبة ثوار طرابلس إنما تعكس في معناها ودلالاتها مدى زيف ادعاءات نظام الاستبداد والتسلط الذي ظل جاثما على صدور الليبيين سنوات طويلة تتجاوز العقود الأربعة. وأحسب أن استكمال فتح طرابلس العاصمة والسيطرة عليها من قبل قوات المجلس الوطني الانتقالي إنما يحمل في طياته أمرين متلازمين، أولهما: انتهاء حالة الجمود التي ميزت الحرب الأهلية الليبية على مدى الأشهر الستة الأخيرة. أما الأمر الآخر فهو تبديد مخاوف تقسيم ليبيا إلى منطقتين شرقية وغربية.

ثورة حقيقية
من الملاحظ أن الدول العربية الثلاث في شمال إفريقيا التي اكتملت فيها عملية التغيير السياسي طرحت كل منها نموذجا مختلفا، ففي الحالة التونسية بادر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي بالهرب خارج البلاد، أما في الحالة المصرية فقد أصر الرئيس السابق حسني مبارك على البقاء في أرض المحروسة بحسبانها أرض المحيا والممات - على حد قوله. على أن ما يجمع الحالتين التونسية والمصرية هو اقتصار التغيير على رأس الهرم السياسي في حين بقيت المؤسسات الأمنية والعسكرية والبيروقراطية على حالها. وهنا يأتي تميز وتفرد الحالة الليبية. إننا أمام حركة تغيير ثوري حقيقي. فقد ظل القذافي منذ عام 1969 يمثل الحاكم الفرد ويرفض القول إنه رئيس دولة. وعليه لا توجد في ليبيا أحزاب سياسية أو تنظيمات مجتمعية كما هو معتاد في الأنظمة السياسية المعاصرة. ولعل نجاح الثورة الليبية يعني في أحد أبعاده إعادة الاعتبار لمسألة بناء الدولة الوطنية في ليبيا على أسس جديدة.
ومع ذلك فإن رؤية المجلس الوطني الانتقالي في إدارة مرحلة ما بعد القذافي تأخذ في الاعتبار عدم تكرار السيناريو الأفغاني أو العراقي في ليبيا، وعلى سبيل المثال في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق تم تسريح أفراد القوات المسلحة والشرطة وحل مؤسسات الدولة المختلفة تحت شعار اجتثاث حزب البعث؛ وهو ما أدى إلى انعدام الأمن وغياب الاستقرار السياسي في عراق ما بعد صدام حسين.
وتشير إحدى وثائق المجلس الوطني الانتقالي الليبي التي تم الإفصاح عنها أوائل آب (أغسطس) 2011 إلى أنه قد تم تجنيد نحو 800 من مسؤولي الجهاز الأمني الليبي ليكونوا نواة القاعدة الأمنية لحكومة ليبيا الجديدة. كما أن الوثيقة تؤكد أيضا وجود خطط للاستعانة بنحو خمسة آلاف من أفراد الشرطة الذين خدموا في وحدات غير مرتبطة أيديولوجيا وفكريا بنظام القذافي.

إعادة بناء الدولة الليبية
على الرغم من أن البنية التحتية في ليبيا تعد ضعيفة وفقا للمعايير الدولية وبالقياس لثروتها النفطية الهائلة فإنها لا تكاد تكون معدومة كما هو الحال في دولة مثل أفغانستان عام 2001. وثمة حاجة ملحة اليوم إلى ضرورة إدماج قوات الأمن في النظام الليبي البائد لتتحمل مهام حفظ السلام وتحقيق الاستقرار في مرحلة ما بعد القذافي. لقد تعطلت مهام بناء الدولة الليبية زمن القذافي، حيث بشر الكتاب الأخضر بنظام اللادولة التي تحكم الجماهير من خلاله نفسها بنفسها. وعليه فقد كان نظام القذافي غير متوازن، حيث قامت الدولة بمهمة توزيع عوائد النفط على السكان - ولو نظريا - في حين لم يكن لديها أي مهام أخرى سوى قمع المعارضين لها. أي أن عملية بناء الدولة الوطنية في ليبيا ما بعد القذافي ستبدأ من مراحلها الأولى.
والمأمول من أي حكومة ليبية جديدة الاستفادة من المهارات الإدارية والتقنية الكبيرة لموظفي الخدمة المدنية في ظل نظام القذافي. وبالطبع سيكون على هؤلاء الموظفين ضرورة التكيف مع الواقع الجديد والعمل في إطار حكومة ثورية تمثيلية تحقق تطلعات وآمال الشعب الليبي. ولا يخفى أن الاستعانة بهذه الخبرات الليبية سيكون من شأنه تعويض النقص في صفوف العناصر الثورية التي قادت الثورة ضد نظام القذافي، وهو ما يساعد على استمرار قوة الدفع الثوري في البلاد.
ومن الملاحظ أن ليبيا تتمتع بمزايا اقتصادية هائلة مقارنة بجارتيها تونس ومصر، فالثروات الليبية، ولا سيما في قطاع النفط، سيكون لها تأثير حاسم في تحقيق الانتعاش الاقتصادي. فقد كانت ليبيا تسهم سابقا بنحو 2 في المائة من جملة الإنتاج العالمي للنفط. ومن المعتقد أن احتياطات ليبيا من النفط تبلغ نحو 46 مليار برميل، وهو ما يجعلها تحتل المرتبة الأولى إفريقيًّا. يعني ذلك أن استعادة القوة الإنتاجية للحقول النفطية في ليبيا مرة أخرى سيسهم دون أدنى شك في توفير الإيرادات اللازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية وإعادة الإعمار في البلاد.

تحديات جسام
يشكل التحدي الأمني أبرز التحديات الكبرى التي تواجه المرحلة الانتقالية في مرحلة ما بعد القذافي. فالثوار الليبيون يمثلون تحالفا هشا من مختلف المصالح والاتجاهات الفكرية الذين جمع بينهم العداء الشديد للنظام البائد. والناظر لتركيبة التحالف الثوري الذي أطاح بنظام العقيد القذافي يجد أنه يضم المحامين والأطباء والمهندسين وسائقي الحافلات، حتى العاطلين عن العمل. كما أن هؤلاء يعبرون عن تيارات فكرية متباينة تضم الإسلاميين والقوميين والليبراليين.. وهلم جرا. وربما يمثل هذا الانقسام إحدى نقاط الضعف التي تهدد وحدة الثوار فور رحيل القذافي. كما أن حقيقة تسليح قطاعات كبيرة من الشعب الليبي تمثل تحديا هائلا لإدارة مرحلة ما بعد انتهاء الصراع؛ إذ يعني ذلك ضرورة نزع سلاح وتسريح المقاتلين المتطوعين، وهو ما يتطلب وجود حوافز مالية لتشجيع هؤلاء الثوار على التخلي عن أسلحتهم.
وأحسب أن غياب القيادة الثورية الكارزمية القادرة على توحيد ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي يمثل أمرا مثيرا للقلق في إدارة المرحلة الانتقالية.إن ليبيا تفتقر إلى الزعيم الكاريزمي الذي يمكن أن يرتفع فوق الخلافات ويقنع كل شرائح الشعب الليبي بأهمية بناء دولة وطنية توافقية جديدة. فالمستشار مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي كان وزيرا للعدل في ظل حكومة القذافي إلى أن استقال احتجاجا على استخدام العنف ضد المتظاهرين في فبراير (شباط) 2011. وعلى الرغم من أنه يتصف بالاعتدال والرؤية التوفيقية وقام بإصلاحات مهمة في القانون الجنائي الليبي، فإن هناك الكثير من الشكوك التي تثار حول مدى ملاءمته للقيادة في مرحلة ما بعد القذافي. وعلى جانب آخر، فإن محمود جبريل الذي كان يشغل منصبا إداريا رفيعا في ظل حكومة القذافي يمتلك اتصالات خارجية واسعة وعمل بشكل دؤوب كممثل خارجي للثوار. وسيخسر الليبيون هذه الخبرة الواسعة إذا لم يكن محمود جبريل جزءا من أي حكومة مستقبلية في بلادهم بعد الثورة.
إن ليبيا الجديدة في حاجة إلى بناء هوية وطنية موحدة تشمل جميع الليبيين من مختلف المناطق والقبائل. ولعل ذلك يتطلب بناء مؤسسات جديدة تكون قادرة على اجتذاب ولاء المواطنين كافة وتمنع لجوء البعض إلى إعلاء انتماءاتهم الأولية. ولا يخفى أن ليبيا تعاني منذ الاستقلال عام 1951 أزمة هوية حادة. فقد دافع الملك إدريس السنوسي عن الاعتبارات القبلية في حين أعلى القذافي من الاعتبارات الأيديولوجية التي تتجاوز الدولة الوطنية مثل القومية والإسلاموية.
وعلى أي حال فقد أثبتت الثورة الليبية أن تأثير المتغير القبلي محدود وقليل الأهمية؛ إذ يظهر العامل الإقليمي والمناطقي باعتباره الأكثر أهمية، وهو الأمر الذي يعيد إلى الأذهان التقسيم القديم للإمارات الليبية الثلاثة طرابلس في الغرب وبرقة في الشرق وفزان في الجنوب. على أن خريطة الطريق التي وضعها المجلس الوطني الانتقالي لإدارة المرحلة الانتقالية تبدو مبشرة وتعد خطوة في الاتجاه الصحيح.
الوثيقة الدستورية المؤلفة من 37 بندا تشكل إطارا عاما للمرحلة الانتقالية؛ إذ من المقرر انتخاب مجلس وطني بالاقتراع العام المباشر في غضون ثمانية أشهر. على أن يقوم هذا المجلس بتعيين حكومة وطنية انتقالية لإدارة البلاد لمدة عام واحد. وخلال هذه الفترة تتم صياغة دستور جديد لإقرار النظام السياسي الليبي المفضل. وفي نهاية هذه الفترة يتم إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المباشرة. عندئذ تكون ليبيا قد أعادت الاعتبار مرة أخرى لعملية بناء الدولة الوطنية على أسس حديثة ورشيدة، ويصبح نظام دولة الجماهير الذي تغنى به القذافي واحدا من أغرب نظم الاستبداد التي شهدتها المنطقتان العربية والإفريقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي