ليبيا ما بعد القذافي .. تحديات ومصاعب
إن قيام نظام سياسي على أسس المحاصصة سيطعن في الصميم وحدة ليبيا، وسيكون مقدمة للتجزئة والتفتيت. ذلك لا يعني التمسك بالمركزية التي سادت في ليبيا منذ حصلت على استقلالها مع مطالع الخمسينيات من القرن المنصرم، فهذه المركزية أسهمت بشكل كبير في تغول البيروقراطية وتعطيل مصالح المواطنين. لكن وجود نظام يعمل على التخفيف من وطأة مركزية الدولة، وإطلاق المبادرات والنص على وجود صلاحيات لكل محافظة لإدارة شأنها الخاص أمر مختلف تماما عن مبدأ القسمة.
ابتداء يجدر التذكير بأن الكيان الليبي المعاصر، هو ناتج وحدة بين ولايات ثلاث: طرابلس وبرقة وفزان. وارتبط وجود هذا الكيان بتنازل إيطاليا، تحت ضغط نتائج الحرب الكونية الثانية عام 1947 عن ممتلكاتها الاستعمارية، وصدور قرار عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1949 باستقلال ليبيا، وقيام المملكة الليبية المتحدة. لكن استقلال ليبيا رسمياً لم يتحقق إلا عام 1951. وفي الفاتح من أيلول (سبتمبر) عام 1969 قاد العقيد معمر القذافي انقلاباً عسكرياً أطاح بالملك محمد السنوسي، وأعلن الجمهورية، ومنذ ذلك الحين تربع العقيد على الحكم وقاد البلاد بقبضة حديدية حتى انطلاق الثورة الليبية أخيرا.
وتوضح قراءة الجغرافيا الطبيعية لهذا الكيان جملة من الحقائق. أولاها أن كيانية ليبيا لم يفرضها التاريخ، كونها لم تحفر مساربها في عمقه، ولم تسعف الجغرافيا في ترسيخها. لقد برزت هذه الكيانية بفعل ولادة قيصرية تعسرت أكثر من خمس سنوات، وكانت الدول الكبرى والجمعية العامة للأمم المتحدة هي قابلتها. في المرحلة التي أعقبت الاستقلال لم تسعف الجغرافيا هذه الوحدة بفعل عوامل موضوعية، أهمها اتساع رقعة الأرض التي تقوم عليها، وقلة عدد السكان، واتساع المسافات بين المدن لدرجة تصبح معها التجمعات السكانية مستوطنات منعزلة بعضها عن بعض. يضاف إلى ذلك، ندرة الموارد الزراعية، والبنية القبلية القوية للمجتمع. هذه العوامل مجتمعة لا تشجع على تشكل هوية وطنية قوية وراسخة. وبالتأكيد كان لسياسة الأنظمة التي حكمت ليبيا بعد الاستقلال، المعتمدة على سياسة التمييز بين المناطق، دور كبير في الحيلولة دون تحقيق الاندماج الوطني على الرقعة الليبية.
يضاف إلى ذلك، أن هذه الأرض شهدت تجريفا كاملا للعمل السياسي منذ استشهاد شيخ المجاهدين عمر المختار، والقضاء على الثورة الليبية التي ناضلت ضد الاستعمار الإيطالي، فالنظام الملكي، الذي تسلم السلطة بعد رحيل الإيطاليين، لم يسمح بحرية العمل السياسي أو النقابي، وجاء نظام العقيد وواصل هذا النهج. وبدأت المعارضة الليبية ضد القذافي بالتشكل منذ بداية السبعينيات، وبرز من بينها جبهة الإنقاذ الوطني، التي قادها المقيريف. ولأن هذه المعارضة عملت في ظروف غاية في الصعوبة، فقد كان حضورها في الغالب خارج ليبيا وليس في البيئة المفترض أن تعمل من داخلها. وكانت نتيجة ذلك أن أقامت صلات بالقوى الخارجية، ما أدى إلى تحقيق اختراقات كبيرة من تلك القوى في داخل بنيتها والتأثير في توجهاتها. وقد أقيمت في الثمانينيات من القرن الماضي معسكرات تدريب لبعض عناصر هذه المعارضة على الأراضي الأمريكية.
هذه المقدمة ضرورية لاستيعاب المهام المنوطة بقيادة السياسية الجديدة، لبناء ليبيا معاصرة، تتجاوز أخطاء العهود السابقة، وتحقق قطعا إيجابيا مع الماضي. لقد انتهت مرحلة القذافي، وتنفس الشعب الصعداء، بعد أكثر من أربعة عقود من القهر وحكم التسلط والفساد والاستبداد.
تمكن الليبيون بعد تضحيات جسيمة، في صراع يبدو أنه الأعنف بين ما شهدته البلدان العربية التي مر بها موسم "الربيع العربي"، من تحقيق الخطوة الأولى على طريق طويل شاق وصعب. وأخطر ما في التركة التي خلفتها معركة التخلص من الديكتاتورية امتزاج مطالبة الشعب بالحرية والعدالة بتدخلات "ناتو"، مزودا بتفويض أممي صادر عن مجلس الأمن الدولي تحت ذريعة حماية المدنيين، لتضمخ الأهداف النبيلة بالدماء الزكية التي أسالتها كتائب العقيد وحلف ناتو على السواء، ولنوضع مجددا بين متقابلين أحلاهما مر: إما القبول بالاستبداد المحلي وإما الخضوع لهيمنة قوى الغطرسة الدولية.
ومن المؤكد، أن المهام التي ينبغي أن يضطلع بها الليبيون في هذا المنعطف التاريخي من حياتهم كثيرة، في مقدمتها التعامل مع الآثار التي خلفتها الحرب. فهناك آلاف الجرحى والثكالى والأرامل والأيتام، وجروح غائرة في نفوس الليبيين، سببها احترابهم واختلاف بعضهم حول مشروعية النظام الذي قبر، وهي جروح بحاجة إلى أن تندمل. وهناك ضرورة عاجلة لرفع ركام الخراب وإعادة تعمير ما دمر في القصف المتبادل بين "ناتو" وكتائب العقيد. وليست أقل من ذلك إلحاحا مهمة تشغيل المستشفيات وتزويدها بما تحتاج إليه من القوى البشرية المتخصصة والكفاءات والأدوية اللازمة لمعالجة الجرحى والمعوقين. وهناك أيضا صيانة البنية التحتية للمدن الرئيسة، التي عانت هي الأخرى من جراء الحرب.
وجميع هذه المهمات تتطلب أموالا طائلة، لا قبل لشعب ليبيا الذي عاش تحت وطأة الحرب والحصار بتلبيتها، بما يتطلب تضافر جهود الأشقاء العرب للمساعدة على تأمينها.
يضاف إلى ذلك، يتوقع كثيرون أن تؤدي الطريقة التي تم بها إسقاط نظام القذافي، عن طريق حلف ناتو، إلى تكبيل ليبيا بقيود جديدة، ولن يكون سهلا التخلص من هذه القيود، خاصة أن الناتو قد تمكن، خلال الأشهر التي مضت من تحقيق اختراقات رئيسة في صفوف المعارضة، التي تصدت للنظام السابق. كما أن الانفلات الأمني الذي يسود معظم أنحاء ليبيا، وانهيار مؤسسات الجيش والشرطة التي كانت قائمة من قبل، ربما يكون مدعاة للدعوة لتشكيل قوة حفظ سلام دولية، بقرار أممي جديد، بما يتيح لقوى الهيمنة استثمار هذه المستجدات لفرض تبعية البلاد لسياساتها.
إن ذلك يفرض على الدول العربية مجتمعة مساعدة ليبيا على حل هذه الإشكالات. وربما يشكل اقتراح وجود قوات عربية في ليبيا لحفظ الأمن والمساعدة على عودة الاستقرار حلا معقولا، للخروج من النفق، لتأكيد مبدأ وحدة الأمن القومي العربي الجماعي وحماية بلد عربي من شر المتربصين.
وإذا ما انتقلنا من التعامل مع الأوضاع الطارئة التي تمر بها ليبيا إلى مقابلة استحقاقات الشعب الليبي وتنفيذ أجندة الإصلاح السياسي، التي هي مبرر اندلاع الحركة الاحتجاجية التي أسهمت في إسقاط نظام العقيد، فإن المهمة الأولى في هذا السياق هي إعادة بناء مؤسسات الدولة بكل تفرعاتها وتشعباتها، خاصة القضاء والجيش والشرطة.
والخطوة الأولى في هذا الصدد، هي حل الميليشيات التي تأسست مع بداية الحركة الاحتجاجية، التي شكلت العمود الفقري المحلي في المواجهة مع كتائب القذافي. هذه الميليشيات تشكلت في ظروف صعبة للغاية، وفرضت تشكيلها طبيعة اللحظة. واتسمت بغياب القيادة السياسية الموحدة للمعارضة الليبية. وجاء تشكيلها مرتبطا بمجموعة من الاعتبارات الفئوية والمناطقية والولاءات القبلية والسياسية، واتخذت طابع الفزعة، وضمت عناصر إسلامية متطرفة. وحان الوقت لحل هذه الميليشيات ودمجها في المؤسسة العسكرية الجديدة التي ينبغي العمل بأقصى سرعة على تشكيلها.
بالتزامن مع إعادة تشكيل مؤسستي الجيش والشرطة، ينبغي التسريع في إعادة تدشين مؤسسة القضاء. ومن المهم الاعتراف باستقلاليتها عن بقية مؤسسات الدولة. إن هذه الخطوة تمثل بداية صحيحة على طريق تطبيق سيادة دولة العدل والقانون. وأهمية وجودها في هذه المرحلة تكمن في تجنيب البلاد الفوضى وروح الانتقام والثأر من أتباع النظام السابق. إن القضاء المستقل وحده الذي بإمكانه أن يكون ميزانا للعدل، وهو وحده الذي يجنب البلاد غوائل الأحقاد، ويعطي كل ذي حق حقه.
في الأيام الأخيرة صدرت تصريحات أمريكية تدعو المجلس الانتقالي الليبي للاستفادة من تجربة العملية السياسية التي هندسها ونفذها المندوب السامي الأمريكي بول برايمرز في العراق. والواقع فإن اقتفاء هذه التجربة هو أسوأ ما يمكن أن تقدم عليه قيادة ليبيا الجديدة. فالتحول نحو التعددية والديمقراطية، ومغادرة نظام التسلط والاستبداد وبناء ليبيا الجديدة، تقتضي تعزيز مفهوم المواطنة المستندة إلى الاعتراف بالندية والتكافؤ والمساواة، والنأي عن القسمة والمحاصصة بين العشائر والقبائل. ينبغي الاستناد إلى العلاقات التعاقدية بين البناء الفوقي والمجتمع، وأن يأخذ الفرد مكانه في المجتمع من خلال كفاءته وأدائه وليس من جاهه وحسبه والقبيلة أو العشيرة التي ينتمي إليها.
إن قيام نظام سياسي على أسس المحاصصة سيطعن في الصميم وحدة ليبيا، وسيكون مقدمة للتجزئة والتفتيت. ذلك لا يعني التمسك بالمركزية التي سادت في ليبيا منذ حصلت على استقلالها مع مطالع الخمسينيات من القرن المنصرم، فهذه المركزية أسهمت بشكل كبير في تغول البيروقراطية وتعطيل مصالح المواطنين. لكن وجود نظام يعمل على التخفيف من وطأة مركزية الدولة، وإطلاق المبادرات والنص على وجود صلاحيات لكل محافظة لإدارة شأنها الخاص أمر مختلف تماما عن مبدأ القسمة.
ولن يكون ممكنا الانتقال السلمي نحو دولة التعددية والحرية وتداول السلطة، والعدل والقانون دون إتاحة الفرص لحرية تدشين الأحزاب والمؤسسات السياسية وبقية مؤسسات المجتمع المدني، واحترام الرأي والرأي الآخر. إن تحقيق ذلك يتطلب صياغة دستور جديد يأخذ بعين الاعتبار التحولات الكونية السياسية التي شهدها عصرنا، يجري إقراره من قبل الشعب الليبي عن طريق الاقتراع لتأسس بعد ذلك المجالس التمثيلية والنيابية والمؤسسات المعبرة عن حاجة هذا الشعب وتطلعاته في الحرية والكرامة.