ودع الحياة.. ابدأ القلق!
جلس على مقعده في الطائرة وحيداً، كان أول الجالسين في الصف، تمتم بتسابيح ودعوات أن يحفظه الله تعالى في رحلته، وما هي إلا لحظاتٍ حتى جلس راكبٌ آخر بجواره، وحياه بعد أن وضع حقيبته في مخزن الأمتعة العلوي. تسارعت نبضات قلبه مع اقتراب موعد الإقلاع، ارتعدت فرائصه وبدأ العرق يتصبب فوق جبينه وعلت وجهه صفرة! راقبه الراكب الذي بجواره على استحياء، لم تسعفه لباقته في كبت رغبته في البوح بمشاعره للراكب القلق القابع على المقعد الذي عن يمينه، سأله بتعجب: هل أنت خائف؟! نعم، هل تقصدني؟! رد عليه بصوت متهدج، نعم يبدو أنك تركب الطائرة لأول مرة! فرد عليه: لا، ولكن هذه مشاعري في كل مرة أستقل فيها الطائرة، قلق من سقوط كتلة معدنية ضخمة معلقة بين السماء والأرض، ولكن الحافظ الله.
كم من المرات صادفت موقفاً مماثلاً، وتعييك الحيلة عن معالجة أمر هذا القلق حتى مع أقرب الناس إليك. ما يا ترى العلاج الناجع لهذه المشكلة التي لا يكاد يسلم منها أحد؟ هل جربت أن تعتمد على الإحصاءات لتطرد قدراً كبيراً من الأوهام التي تحيط بك؟ يتساءل الكثير منا: ما القدر المقبول من القلق، وهل القلق حالة مرضية أم هو أمر صحي ومطلوب؟
لا شك أن قدراً قليلاً وموضوعياً من القلق يجعلك متحفزاً لتحمل المسئولية، وتقدير المخاطر المصاحبة لقرار ما، إلا أن التطرف في جميع الأمور أمر غير مقبول. ولكن كيف السبيل لتقدير القدر المقبول من القلق؟! من المعلوم أن قراءة الماضي تسهل توقعاتك في المستقبل بإذن الله، فما حدث في الماضي مرشح للحدوث في المستقبل وإن كان بشكلٍ مختلف بعض الشيء، والطريقة العلمية لتطبيق هذا الأمر هي أن تعتمد على الإحصاءات، وفي حالة فوبيا الخوف من الطيران قد يساعد كثيراً أن تراجع عدد حوادث سقوط الطائرات ونسبته إلى الساعات التشغيلية، لكي يمكنك تقدير احتمال سقوط طائرة تستقلها في يومٍ من الأيام! إذ إنه لمن المحتمل جداً أن تكون احتمالية تعرضك لحادث سير لا سمح الله في سيارة تقودها بنفسك بين مدينتين أكثر إمكانية من سقوط الطائرة التي قد تستقلها لقطع المسافة نفسها.
وعلى العموم، لا بد من قدرٍ قليلٍ من القلق تجاه كل مسئولية أو قرار، بدءاً من مسئولية التلميذ في المدرسة حين يستعد للامتحان، إذ من دون قدر قليل من القلق من الرسوب لن يجد الطاقة الكافية للاستذكار! إلا أن زيادة القلق عن حده قد تؤدي إلى الاستكانة والضعف، والهروب من المواجهة. وهذا الأمر بالطبع طريق سريع للفشل، فالتوازن الانفعالي تجاه الأمور يعد سراً من أسرار النجاح، ومن الحصافة أن توفق لإعادة توجيه طاقتك السلبية لفعل أمرٍ إيجابي، وهو ما يفعله القلق الإيجابي المعتدل حين يقودك لتفعل الصواب وتتحمل العواقب.