سياسة الإغراق بالأوراق
يمثل الموت غرقاً واحدة من أصعب حالات الموت وأكثرها رعباً، لذا نجد أن الغريق في الإسلام يعتبر شهيداً مثله مثل من يموت في الحرب دفاعاً عن الدين أو الوطن. وحالة الرهاب ''الفوبيا'' الناتجة عن الغرق وما يشعر به الإنسان المهدد به فتحت أذهان أجهزة التحقيق والتعذيب في بعض دول العالم لفاعلية هذه الحالة النفسية، لذا تم استخدامها كوسيلة ضغط لانتزاع المعلومات والتوقيع على الاعترافات المفبركة. إن القيمة المهمة للحالة النفسية للخوف من الغرق التقطها كثير من أصحاب المصالح وذوي النزعة الشريرة والفاسدة واستخدموها لتحقيق مآربهم والوصول إلى أطماعهم بكل فاعلية ونجاح. إنه باختصار نموذج للذكاء في استثمار علم النفس وخبايا العقل البشري من قوة وضعف.
وعندما يكون الغرق والإغراق محور حديث أو في صلب قضية أو مهمة، فإننا ننقل الأمر من الواقع إلى اللاواقع وندخل من يواجهه ويقع فيه في حالة نفسية تشتت تركيزه وتفقده القدرة على اتخاذ القرار الصحيح ولو لبعض الوقت. إنها حالة من اللاوعي لا يدرك من يقع فيها أين موقعه وما مساره وما نهايته.
والتقط جهابذة البيروقراطية السلبية، خاصة في الأجهزة الحكومية وأصحاب المصالح وأعوانهم الفاسدون والمفسدون، هذه الحالة العقلية واستخدموها لتحقيق مصالحهم وقطع الطريق على من يحاول الوصول إلى الحقيقة، فطوروا ممارسة الإغراق من الماء إلى الورق وخلق حالة الرهاب والرعب نفسها. لذا نجد أن إحدى أهم وسائل خلط الأوراق وإضاعة الحقيقة لديهم تتمثل في كثرة المخاطبات والمستندات والاستفسارات وأخذ الأقوال وتقارير اللجان حتى لم يعد لمن في يده الأمر أي قدرة أو إمكانية لاتخاذ القرار السليم. إن أي قضية أو موضوع يثار إما مطالبة بحق وإما كشف لظلم أصبح اليوم مثل كرة الثلج، حيث يبدأ بخاطب من صاحب الشكوى ثم تأخذ الأوراق والتحويلات والتأشيرات والعروض وتقارير اللجان تهل فوق الخطاب الغلبان حتى يختفي داخل معاملة تحمل في طرود وتتنقل بين المدن والأجهزة الحكومية تتقاذفها وسائل البريد وتمر عليها الأيام والسنون حتى تهرم وتصيبها أمراض الشيخوخة والكبر. أما الشاكي والمشتكى منه (سواء كان فاسدا أو مهملاً) فهما يقعان في فخ الزمن، فالشاكي يحترق ويتقطع غيظا والمشتكى منه يحمد الله على مرور الوقت دون حساب أو عقاب أو مساءلة.
لقد أصبح حجم المعاملات لدينا والمدد الزمنية التي تأخذها مثالاً للبيروقراطية السلبية التي يمكن أن تدرس في الجامعات كنماذج من أرض الواقع تستخلص منها العبر. لم نعد نستغرب وجود عدد من الطرود الموضوعة في أكياس لقضية واحدة بسيطة. ولم يعد شيئاً نادراً أن تجد قضية أو معاملة لها عشر أو 20 سنة، وهي تبحث عن قرار عادل وحاسم يوقف تقاذفها بين المكاتب.
لقد صار المواطن في أحيان عديدة يفضل أن يترك بعض حقه تجنباً لمعاناة سياسة الإغراق بالأوراق. وإذا كان المواطن قد فضّل هذا الحل فإن المسؤول صاحب القرار هو الآخر أصبح عاجزاً عن اتخاذ القرار لكثرة ما هو أمامه من أوراق متداخلة ومتعارضة، لذا بدأ يكتفي بمسايرة الركب ووضع توقيعه أو شرحه وترك سفينة السلبية والاستهتار، بل الفساد تجري في بحرها تنتقل من ميناء إلى ميناء.
ومع أن سياسة الإغراق بالأوراق استخدمت كوسيلة لطمس الحقائق وأكل الحقوق إلا أنها كذلك استخدمت كوسيلة لوقف أي عملية إصلاح أو تطوير، فعندما يعين شخص جديد من خارج الجهاز فإن عتاولة الجهاز ومراكز القوى فيه ينظمون صفوفهم ويفاجئون هذا المسؤول الجديد بالتقارير والكتب وصور القرارات القديمة ليدخلوه في دوامة الإغراق ثم الغرق فلا يعرف الصح من الخطأ وماذا يجب عليه أن يعمل فيتوه ويصبح طالباً منهم (أي مراكز القوى) النجدة ورمي طوق النجاة له، وهذا ما ينتظرونه، فينشد منشدهم ''جاك يا مهنا ما تمنى''.
إن سياسة الإغراق بالأوراق وأساليبها وإجراءاتها تستحق أن يكتب عنها الكثير وتعرض نماذج حقيقية منها ليطلع الجميع على ما وصل إليه الحال، وما أسباب فشل محاولات التطوير أو القضاء على التسيب والسلبية.
وإذا كان موضوع الإغراق بالأوراق تتم ممارسته على المستوى الأفقي داخل البيروقراطية الإدارية إلا أن له وجود وممارسة كذلك على المستوى الرأسي. فهو يتماشى مع أهزوجة رياضية معروفة ويستنبط مفرداتها ليردد مشجعوه وممارسوه: بالطول بالعرض سياسة الإغراق بالأوراق تهز الأرض.
إن هذه الحالة من الترهل الإداري والسلوك الخاطئ في حاجة إلى خطوات جريئة وكبيرة من قبل فعاليات وقيادات تفرغ للمهمة وتعطى الصلاحيات التي تمكنها من نقلنا من حال إلى حال. هذه المجموعات المختارة يجب ألا تقتصر على الجهاز الحكومي فقط لأن هذا الجهاز كما قال أحد كتابنا السعوديين في مقالة له منشورة ''الجهاز الحكومي لن يقودنا لاكتشاف مصادر هذا التذمر لأنه جزء من المشكلة''.
ماذا لو
ماذا لو حددت القيادة العليا فترة زمنية قدرها خمس سنوات بحد أقصى لجميع أجهزة الدولة لتطبيق الحكومة الإلكترونية وإجبار الجميع على استخدام النماذج واختصار سلسلة اتخاذ القرار وتوزيع الصلاحيات؟