العالم العربي بين العلمانية التركية والنموذج الديني الإيراني
قبل قيام رجب طيب أردوغان بجولة مكوكية في الدول العربية التي تغيرت فيها أنظمة الحكم بعد الربيع العربي (مصر، تونس، وليبيا)، أعدّت الجماعات الإسلامية نفسها جيدًا لاستقبال وريث الخلافة العثمانية، حتى غزة لم تبعد نفسها عن هذه الأجواء الاحتفالية، حيث جاء في تصريح لرئيس الحكومة المقالة في غزة إسماعيل هنية مؤكدًا فيه ''أن التحضيرات في غزة على قدم وساق كما لو أن أردوغان سيأتي إليها، وتم تشكيل لجنة خاصة للتحضير لمثل هذه الزيارة''. لكن قبيل مغادرته مصر متجهًا نحو تونس نقلت وسائل الإعلام العربية والعالمية في تصريح خاص لأردوغان عن العلمانية حوّل صورة الابتهاج لدى الإسلاميين من الفرح المفرط إلى حزن وغضب على مواقفه المفاجئة لهم، وذلك بسبب إشادة الرجل بالعلمانية ومطالبته المجتمع المصري بالحفاظ على علمانية الدولة، وهذا ما لم يرق للجماعات الإسلامية في مصر ولا بقية الدول العربية، حيث أثار في الوقت نفسه حفيظة الإسلاميين والسلفيين من أردوغان، خطاب أردوغان المهم للغاية حول العلمانية، حيث قال: نحن أيضا مثلكم عشنا هذا النقاش في تركيا، نقاش المصطلحات والأنظمة، وقمنا بتنقية وتصفية المصطلحات مع الزمن حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، قبل كل شيء العلمانية ليست مصطلح رياضيات! في تركيا هناك أيضا من حاول تعريف العلمانية على هواه ووفق مصلحته، ودفعنا جميعنا في تركيا ثمن تلك المحاولات، في الدستور التركي الذي وضع عام 1982 هناك تعريف للعلمانية، هذا التعريف يقول إن الدولة العلمانية تقف على مسافة واحدة من جميع الأديان الموجودة في الدولة ومنتسبيها، الأشخاص لا يكونون علمانيين، إنما الدولة هي العلمانية؛ لأن العلمانية نظام وليست دينًا، الأشخاص يمكن أن يكونوا متدينين أو غير متدينين أو من ديانة أقلية أو حتى ملحدين، في مصر هناك المسلمون والأقباط وأقلية يهودية! وفي تركيا رغم أنّ الغالبية العظمى مسلمون، إلا أنّ حقوق الأقليات مصونة، هذا هو الحكم العلماني الذي يمكن من خلاله أن يحكم المتدين دون النظر لديانته.
ففي خضمّ ذلك الجدل الدائر حول زيارة أردوغان، لم يستطع النظام الإيراني محاولة ضبط النفس حيال الترحيب الذي لاقاه أردوغان في الدول العربية، ومن شدة الغضب وفرط الغيرة تهجمت وسائل الإعلام الإيرانية والقادة الإيرانيون على المشروع الذي تتبناه الحكومة التركية التي يترأسها السياسي التركي المخضرم، وعبّرت عن خوفها من النفوذ المتزايد للعلمانية الإسلامية التركية على حساب النموذج الديني الذي تنوي إيران أن تجسده في الدول العربية في محاولة منها إلى تبرير أنّ ما يحدث في الدول العربية قد استلهمه العرب من النموذج الإيراني (الذي لم يأت للمنطقة سوى بالكوارث منذ عام 1979).
في هذا السياق؛ نشر موقع ''بولتن نيوز'' المقرب من الدوائر الأمنية الإيرانية مقالاً يؤكد في مجمله ردة فعل صناع القرار الإيراني التي يشوبها الكثير من الانفعال حيال تصاعد الدور التركي في المنطقة العربية، ويعيد للأذهان الصراع التركي العثماني ـــ الإيراني الصفوي على المنطقة العربية، فكاتب المقال تعمد اختيار عنوان يسعى فيه إلى تهميش الدور التركي في الثورات العربية، حيث إنّ المقال يحمل عنوان ''إيران.. القلب النابض للثورات العربية والإسلامية''، يشير فيه الموقع إلى أنّ تركيا تحت قيادة السياسات الاستراتيجية المتبعة من قبل رئيس الوزراء التركي أردوغان ووزير خارجيته داوود أوغلو، ترغب في توسيع دائرة نفوذها وسيطرتها في المناطق التي كانت تخضع لسيادتها قبل سقوط الخلافة العثمانية، وهذا من شأنه أن يدرّ على الأتراك منافع اقتصادية ومالية تشبع النهم المفرط للتوسع التركي في تلك البقعة من العالم، وهذا الأمر يأتي في توافق ومواءمة شديدتين مع الرغبة السعودية والتطلعات الأمريكية في الوقت نفسه.
ويضيف كاتب المقال قائلاً: إنه من خلال نظرة خاطفة إلى منطقة الشرق الأوسط يمكننا أن نتعرف على من لديه القدرة على الإمساك بزمام أمور المنطقة، التي لا شك أنّ هناك ثلاث دول غير عربية تعتبر اللاعب الرئيس فيها وهي ''إسرائيل، إيران، وتركيا'' فقط، من هنا فإنّ زيارة أردوغان للمنطقة التي تحمل في طياتها دلالات تصب في هذا الاتجاه الذي يشير بكل وضوح إلى المسعى التركي الذي يحاول جاهدًا خطف زمام المبادرة لمصلحته من منافسيه اللدودين (إيران وإسرائيل)، لذلك اشتد التنافس بين هذه الدول الثلاث على سرقة الأدوار بسبب ما تشهده المنطقة العربية من فقدان لمنظومة عربية متكاملة، فاليوم تختلف مسارات المنطقة فيما كانت عليه الأمور قبل أكثر من ثلاثة عقود، حيث كان التنافس في السابق داخليًا بين دول محور أصدقاء الغرب وأعدائها، ولم يوجد لا لتركيا ولا لإيران حينها سياسات تنافسية مع إسرائيل، لكن اليوم تحول التنافس بين إيران وتركيا وإسرائيل على المنطقة في ظل غياب الدور العربي التنافسي.
يكمل صاحب المقال فكرته عبر التركيز على أنّ منظومة الدول العربية كانت ولا تزال تتجه نحو أحد هذه الأقطاب الثلاثة التي لها تأثير بالغ في المنطقة برمتها (إيران، تركيا، وإسرائيل). فعلى سبيل المثال؛ سورية والعراق اليوم لديهما قواسم مشتركة مع إيران أكثر من غيرهما، ففقدت إسرائيل العديد من خريطة نفوذها لمصلحة تركيا وإيران، في حين حافظت السعودية على سيطرتها بين دول الخليج العربي. فبالنسبة لمصر وتونس التي شهدت تغييرات في أنظمة الحكم تقلص الدور الأمريكي بشكل ملحوظ نتيجة ما يجري هناك من أحداث، خاصة بعد أن شاهدنا ما حصل من اقتحام سفارة إسرائيل في القاهرة يبدو أن أمريكا وحلفاءها فقدوا أوراقهم كما هو الحال بالنسبة لإسرائيل، التي تعيش حالة من الذهول وعدم تصديق ما يجري في المنطقة، فالمنطقة مهيأة بشكل كامل لدور طهران التصاعدي.
في ظل تطورات كهذه طرأت على المنطقة فإنّ الزيارة المتسارعة جدًا لأردوغان جاءت لتعكس مدى القلق الذي يساور الأتراك حيال ما يمكن لإيران أن تقوم به في هذه الدول خدمة للأجندة الاستراتيجية الإيرانية المركزة في منطقة جيوبولتيكية حيوية لها أهميتها القصوى بالنسبة لأنقرة، فرغم النجاح الذي حققه أردوغان وفريقه السياسي الذي يترأسه أحمد داوود أوغلو خدمة لأجندة وطموحات اقتصادية تركية مبرمجة، فلم يكتب لمثل هذا النجاح شيء لولا مباركة الرياض وواشنطن للدور التركي القادم، لكن يبدو أنّ أمد هذا النجاح لن يطول أبدًا؛ لأن تركيا نفسها من سيمهّد الأرضية للدور الإيراني الآتي في المنطقة العربية. وينهي صاحب المقال في استخلاص نتيجته قائلاً: من هذا المنطلق الذي ذكرت فيه أنّ صحوة الشعوب العربية ومناهضتها للاستعمار الأجنبي وبسبب ما يبشر به نظام الجمهورية الإسلامية من بشرى للشعوب المغلوب على أمرها ستصبح إيران بثورتها الإسلامية القلب النابض للثورات العربية والإسلامية في المستقبل القريب.
أكثر من ذلك فقد حذّر علي خامنئي بُعيد زيارة أردوغان لمصر وتونس؛ بشكل تلويحي من مساعي أردوغان إلى فرض مشروعه على الدول العربية والإسلامية، قائلاً: ''إنّ الذين يحاولون أن يكونوا البديل للفراغ الحاصل في الدول العربية التي سقطت أنظمتها في لعب دور ''الإسلامي العلماني''، الذين يصفهم الغرب بالإسلاميين المعتدلين، هم مطب خطير وضعه الغرب لحرف الأنظار عن الثورة الحقيقية التي ترغب فيها شعوب المنطقة، وهي شبيهة للثورة الإسلامية في إيران، ويجب على الشعوب الإسلامية عدم الوقوع في هذا الفخ الذي وضعه الغرب باستخدام هؤلاء''.
في كل الأحوال، فإنّ محاولة كل من تركيا، التي تسعى للنفوذ والسيطرة في العالم العربي من خلال حزب العدالة والتنمية (العثمانيون الجدد)، رغم أنّ العديد من العرب لم يغفل دورها التاريخي السيئ زمن العثمانيين، التي لم تمحه السنون من ذاكرتهم التاريخية، لكن يبقَى مشروع تركيا أرحم وأقل وطأة على عقول ومشاعر المواطن العربي من النهج الاستعلائي الإيراني وخطابها الطائفي المدمر، إلا أننا في حاجة إلى مرجعية عربية موحدة تتمثل في تشكيل تكتل أو ائتلاف عربي يضم مصر والسعودية وسورية بعد الأسد لمواجهة المشروع الإيراني الصفوي، ولا ضير في مثل هذا التكتل من الائتلاف مع تركيا بشكل مؤقت لمقاومة ما يحاك ضد المنطقة العربية من مؤامرات ودسائس.